د. فوزية البكر
تُظهر الإحصاءات أن من بين كل 3 نساء في العالم تتعرض واحدة منهن للضرب أو الاعتداء بشكل أو بآخر. هذه الحقائق وغيرها يشهدها عالمنا المعاصر، الذي مزقته الحروب والفقر والعنف والتطرف، ودفعت فيه النساء وعائلاتهن الثمن الأعلى كما في الحالة السورية المتجسدة حولنا الآن. هذا الأمر هو ما دفع إلى ظهور حملة البليون عام 2013، التي كانت عبارة عن تجمع عالمي للنساء والرجال حول العالم للنهوض ورفع الأصوات عالياً ضد العنف الواقع على المرأة في مختلف مناطق العالم المضطربة.
ما يعرف الآن بالحملة البليونية للنهوض ضد العنف الواقع على النساء هو - وحتى اليوم - أكبر حركة (إنسانية) عرفتها البشرية في تاريخها لصالح الدفاع عن المرأة ضد العنف. وسميت إنسانية لأن الجميع رجالاً ونساء وأطفالاً بمختلف ألوانهم وطبقاتهم وأعراقهم يشاركون في الحملة أينما وُجدوا، ودون أي تمييز.
لا بد أني كنتُ أستعيد بعضاً من هذه الحقائق وأنا أتأمل حادثة فتاة المول الشهيرة التي لا أعرف لماذا ذكَّرني منظرها وهي تركض مضطربة من جانب إلى آخر على جانبَيْ الشارع في محاولتها المذعورة للهرب من رجل الهيئة بمنظر ذبائح عيد الأضحى المبارك؛ إذ تفر الأضاحي من أيدي العمال الذين يحاولون جرها إلى القصاب، وتجدها تفر هنا وهناك مذعورة؛ فترتطم بجدار، أو تنزلق أرجلها يميناً وشمالاً، ثم هي حين يعمدون إلى سحبها تحاول يائسة تثبيت قدميها الخلفيتين في الأرض، فيتم طرحها وسحلها حتى تقاد خاضعة إلى حيث يضحَّى بها.
ما بين الفتاة المذعورة والرجل المستأسد على الضحية، وبين شهامة رجل الأمن التلقائية ومصور الجوال الذي جعلنا جميعاً شهوداً محتملين لأي فعل مارق، وبين المحامي الواقعي جداً؛ إذ لا أحد يرغب في مزيد من الضحايا، وهو كأي أب يبحث عن الستر الاجتماعي في مجتمعات مولعة بتدوير فضيحة الضحية، نقف جميعا كمشاهدين عاجزين عن إكمال المشهد.
نعم.. نحن أمام البحر الهائج للتحولات الاجتماعية الثقافية والسياسية والاقتصادية التي نمر بها اليوم نقف في حيرة وتظلم متفرجين عاجزين عن بدء حكاية أو إغلاق أخرى.
نقف جميعاً في صفوف، كلٌّ بحسب جنسه ولونه وعرقه ومذهبه وحظوته وقبيلته، نتفرج.. فقط نتفرج في حين يستمر المسرح المثير دون توقف!
من الذي يدفع أكثر؟ قد نقول إننا جميعاً ندفع، وهذا صحيح، لكن الفئات الأكثر قابلية للتعرض لويلات التحولات غير المسبوقة التي يشهدها واقعنا المعاصر هن النساء وعائلاتهن.
لماذا يجب الحرص على النساء؟ لا علاقة للأمر بفكرة النسوية أو خلافها من قضايا الصراع بين الجنسين، التي شغلت معاصرينا حتى الآن.
الأمر كله يتلخص في أننا جميعاً هي تلك المرأة: فإذا لوحقت فسنلاحق، وإذا سُحلت فسنُسحل.
كلنا أطعمتنا امرأة، وربتنا امرأة، وشكل غرسها الثقافي الوتد الذي يرتكز عليه البناء الاجتماعي لبقائه وتجدده عبر الأجيال؛ لذا فكرامتها هي مسؤولية جماعية، تستحق أن ندافع عنها بذات النبل التي أطلقت عقال التلقائية للحارس الأمين.
الحملة البليونية لحماية النساء من العنف تركِّز في أهدافها على تغيير النموذج الأبوي المتقبل ذهنياً والسائد ثقافياً، الذي سمح بتقبل العنف (أياً كانت صورته) على المرأة. تغيير الصورة الذهنية للنظام الأبوي الاجتماعي سيساعد على تحقيق العدالة والمساءلة حين تحدث الإساءة للمرأة. المساءلة بالضرورة ستحدث التغيير المنهجي المطلوب تدريجياً. نصرة النساء المهمشات مثل فتاة المول يجب أن تكون قضية وطنية، ليس لفرديتها أو لإثارتها، بل لأنها وضعية متكررة بصور خفية لآلاف النساء المهمشات في مواقع الحياة المختلفة حولنا، اللاتي يتم سحلهن معنوياً أو مادياً دون أن يوجد فتى الجوال: ذلك المعلق المنتشي، ولا البطل الساحر النادر: حارس المول.. فماذا - إذن - يبقى لهؤلاء المهمشات؟
يبقى وعينا العام الذي يجب أن يصعد وينمو؛ ليحمي جميع الضعفاء والمهمشين والمهمشات، بمن فيهم فتاة المول أو حارس المجمع. يبقى ضرورة تركيز البرامج الوطنية رسمية ومدنية لقيادة التحول الوطني في قضايا الثقافة والقيم وتجاذبات العادات والتقاليد واختلاط المقدس بالموروث؛ حتى نتمكن من العبور بسلام عبر عنق التحول المؤلم. كلنا يستشعر مرارة مغادرة مقاعدنا الوثيرة التي ألفناها؛ إذ كل جنس بأدواره التقليدية المتوقعة. لكن هل نملك الخيار؟؟
لا أظن؛ إذ ها هي ابنتك وابنتي وأختك وأختي تغادر البلاد في مهمة عمل، وأخرى تركض للحاق باجتماع مختلط، وثالثة ترأس مجموعتها البنكية، وسادسة.. نعم ما زالت تدرس في مدرسة البنات القريبة، لكن الثامنة تبحث عن أي عمل متاح في مول النخيل القريب إلى منزلهم.
التحولات الثقافية والقيمية المرتبطة بأدوار المرأة في مجتمعنا السعودي المعاصر يجب أن تكون في قلب التحولات الوطنية حتى تربط بما تحتاج إليه من قوانين وأنظمة وتشريعات، تجعل المشهد مقبولاً للعيش فيه ضمن معايير الحضارة الإنسانية الحالية، وبما يتناسب مع التغيرات العالمية التي نعيشها ونراقبها، وسنكون بالضرورة جزءاً منها. من المهم أن تنتظم المؤسسات الوطنية تشريعية وتنفيذية لتحقيق التناغم الحضاري الذي يوفر للنساء (كل النساء)، سواء كن متنفذات أو مهمشات، أطراً قانونية، تدفع بالتغيير القيمي والثقافي، وتكسر الذهنية الأبوية التي تحاصر المرأة السعودية الجديدة التي تطرق أبوابنا بشدة لاستقبالها.. فلنشرع الأبواب.