د. فوزية البكر
لعل الكثير من مشكلاتنا الصحية والمجتمعية والثقافية تأتي من غياب محبة الرياضة البدنية. الرياضة في حياة مجتمعنا لا تشكل إلا النزر القليل رغم أني أرى أن الجيل الشاب اليوم هو الأكثر تعلقا بها، رغم تجاهل مؤسسات المجتمع وعلى رأسها المدرسة لهذا العامل المهم في حياة الطلاب والطالبات والمجتمع عامة.
الرياضة في حد ذاتها أساسية لأنّها تعلِّم الأطفال معنى العدالة وتخلق روح التنافس وتعزز روح التآخي والتآزر بين الفريق الواحد. بواسطة الرياضة يتمكن الصغار من وضع أهداف واضحة ويعملون على محاولة تحسين مهاراتهم وحتى حين يتعرضون للخسارة والفشل فإنَّ هذه الخبرة تجعلهم ينظرون بعمق إلى مشاعرهم وكيف يتعاملون مع الربح والخسارة، بحيث تصبح هذه الخسارة دافعا لهم لتحسين مهاراتهم مستقبلا.
الرياضة وسيلة أساسية لمحاربة المشكلات الصحية وعلى رأسها السمنة وما يتبعها من مشكلات الضغط والسكر وهي أكثر المشكلات التي تعاني منها مجتمعات الخليج وتحديدا السعودية، حيث أعلنت منظمة الصحة العالمية العام الماضي أن السعودية هي في المرتبة الثالثة عالميا من حيث السمنة بين مواطنيها، وهي النتيجة التي أكدتها أبحاث كرسي السمنة في جامعة الملك سعود التي وجدت أن ثلاثة أرباع المجتمع السعودي يعانون من السمنة (70 في المئة من الرجال و75 في المئة من النساء) وهو معدل إنما يدل ليس فقط على وجود مشكلات صحية بل معضلات ثقافية واجتماعية كبيرة.
من ناحية أخرى تلعب الرياضة دوراً أساسياً في تماسك المجتمع فقلوبنا تهفو حين ينطلق منتخبنا الوطني في بطولات مع دول شقيقة ويجتاحنا الفخر حين تفوز فرقنا بما يوثق المشاعر الوطنية ويدعمها. الرياضة فرصة للمناسبات الاجتماعية، فحدث مباراة كرة بين النصر والهلال أو بين الاتحاد والأهلي وغيرهم من الفرق المحلية يدعم من قبل المشجعين بعدد لا متناهٍ من حفلات الأصدقاء والأهل فيتألف الناس ويقضون وقتهم بشكل إيجابي مفرح. وفي السوبر بول الأخيرة رقم 50 في تاريخ الولايات المتحدة انضم أكثر من مائة وخمسين مليون شخص (وهذا العدد هو الأكثر على الإطلاق في تاريخ العالم) لمشاهدة هذه المباراة التي تمت نهاية هذا الأسبوع في الولايات المتحدة ولم تكن فقط مباراة للرجبي بل حدث موسيقي وتجاري واحتفال وطني صفق له الأمريكان طويلا.
اجتمع الصغار والكبار ولبس المشجعون ألوان الفرق المتنافسة وصدحت الموسيقى وأظهر المبدعون من المصممين قدراتهم على رسم وتشكيل الأشكال والألوان والألعاب النارية بشكل مذهل وصرف الناس على الملابس والأحذية وشارات التشجيع والأكل والشرب والتنقل؛ ما خلق دورة اقتصادية مثالية شغلت المصانع والمطاعم والمتاجر، هذا طبعا عدا بيع التذاكر ونقل الحدث عبر القنوات الخ.. لذا فالرياضة صناعة كاملة تشجع على خلق الوظائف في مجالات متعددة منها التدريب والترفيه والتموين بما يشجع على النمو الاقتصادي في أي بقعة توجد فيه.
نقول كل هذا وننظر حولنا ونجد أنه وعلى رغم المنافع الواضحة من الرياضة كرياضة وصناعة للفرد والمجتمع إلا أنها لا تحظى إلا بالقليل من الاهتمام ومن ثم لا تحظى بما تستحقه من مخصصات مالية كافية لتحقيق أهدافها في مختلف المؤسسات الاجتماعية.
حين أتحدث عن الرياضة فأنا لا أتحدث عن الأندية الرياضية المحلية في المناطق كما عرفناها ووعيناها وكما نقرأ أخبارها في صحفنا المحلية اليوم. أنا أتحدث عن الرياضة حين تكون محورا أساسيا في حياة الفرد والمجتمع بأن توجد حوله: في المدرسة ونادي الحي وملاعب الكرة المجانية لصغار الحي والمسابقات بين مدارس الأحياء والمدن وبين الدول. أنا أتحدث عن الرياضة حين تصبح صناعة حقيقة تنتشل أطفالنا ومراهقينا من هذه الألعاب الإلكترونية التي يمضون سحابات نهارهم معها لعدم وجود بدائل كما أنها ستتيح فرصة لأن ينغمس الوالدين: أمهات وآباء في حياة أبنائهم حين يشرفون على مشاركتهم في أنشطة ما بعد المدرسة والمعروفة في كل مدارس العالم. أطفالنا ومراهقونا ذكورا وإناثا يحتاجون أن يحركوا أجسادهم من خلال الرياضة ويتعلموا مهارات الصبر وطرق التعامل مع النجاح والفشل وأساليب التعاون والدعم من خلال ممارسة الرياضة بدل إغراقهم في جحيم الألعاب الإلكترونية أو المواقع المشبوهة التي تستغل حاجتهم إلى أهداف عليا ومثاليتهم المفرطة وبساطتهم الدينية وخوفهم من الله في جذبهم إلى أتون الإرهاب، كما أوضحت الدراسات والإحصاءات الصادرة من وزارة الداخلية. الوالدان يحتاجان إلى أن يعودا ليكونا في المركز من حياة أبنائهما وبناتهما بدل البقاء ساعات على النت، أو تمضية الوقت مع الأصدقاء والاستراحات أو في أداء الواجبات الاجتماعية التي تستهلك 50 في المئة وأكثر من طاقاتنا اليومية لمقابلتها من زيارة هذا وعيادة ذاك وحضور حفل زواج كذا الخ. لا يعني هذا أنني أندد بالتراحم والتواد الاجتماعي بين العائلات والأصدقاء والجيران. على العكس من ذلك تماماً فأنا أكثر من ينادي بذلك ويؤكد على أهميته لكن ما نفعله هو أكثر من ذلك بكثير: نحن باختصار نغرق في بحر المجاملات الاجتماعية حتى نفقد الهدف من إقامتها مما يشغلنا عن واجباتنا الأساسية تجاه أبنائنا. وحيث إن هذا هو ما يحصل فعلا فإحدى الطرق الذكية التي يمكن للمجتمع إصلاح نفسه بها هو عن طريق إغراق الوالدين في الصناعة الرياضية تطوعا أو استثمارا، حتى يكونا مع أبنائهما في أنشطتهم ومدارسهم ومبارياتهم.
هل نتحدث عن المواهب التي يمكن أن تكتشف من خلال ذلك؟ كل اللاعبين العظماء الذين نعرفهم ظهروا من خلال الأحياء والمدارس وتلقوا العناية التي أوصلتهم إلى مصاف عظماء الكرة، لذا وحتى نتمكن من بناء فرق رياضية محلية حقيقة علينا أن نبدأ من ملعب المدرسة.
بالطبع هنا نتكلم عن الرياضة للجنسين إِذْ من المخجل في عصرنا الحاضر أن نتكلم عن منع الرياضة للفتيات في زمن بلغت فيه السمنة وأمراضها شوطا بعيدا بينهن. رياضة النساء مهمة لأنّها ستمكننا من القضاء على الاحتكار الذي نشهده اليوم في ميدان الأندية الرياضية النسائية الخاصة، فالساحة خالية إلا من هذه الأندية التي تقصم قيمة الاشتراك فيها ظهور الطبقة المتوسطة وما دون وهن النساء الأحوج للرياضة بحكم انتشار السمنة وهشاشة العظام بينهن. أدعو الله أن يلتقط وزير التعليم جريدة الجزيرة هذا اليوم ويقرأ هذه المقالة وهو أعلم مني بلا شك بفوائد الرياضة، لكن لعلها تكون قوة ضغط إضافية تقنع صناع القرار بمساعدة المجتمع لأن يصبح صحيا في نمط حياته بتشريبه ممارسة الرياضة.