د.فوزية أبو خالد
لقطة لماضي البيت السعودي
في كتاب «البيت السعودي» في طبعته الأولى الصادرة عام 1982 أي بعمر من هم اليوم في الثلاثينيات من الشباب السعودي كتب دايفيد هولدن، ريتشارد جون وجورج ترفالين في ذلك التاريخ المبكر أن التحول بالمجتمع السعودي من جيل المؤسس الملك عبدالعزيز إلى جيل الأبناء يقتضي آلية جديدة للتعارف والتواصل بين الحكام والشعب السعودي..
غير تلك الآلية التي كانت قائمة في عهد الملك عبدالعزيز عندما لم تكن الدولة قد طوّرت جهازًا حكوميًا محكم الأبواب. فكان الملك عبدالعزيز بحكم الأواصر القبلية التي تحكم العلاقات الاجتماعية يُنزل في منزلة الأب أو الأخ الكبير الذي يعرف الجميع ويعرفه الجميع ويمكن أن يدخل عليه كما يحكى أي كان من شعبه في مجلسه اليومي المفتوح.
وكان الأمر كذلك بالنسبة للنساء في علاقتهن بزوجته «حصة السديرية»، حيث كانت تخول، على ما روي، نقل شواغل النساء شفهيًا لولي الأمر.
ولكن على الرغم من مشروعية ذلك المطلب وسلامة ذلك التوقع لمقتضى تغير آلية العلاقة بين الحاكم والمحكومين بعد رحيل مؤسس الحكم السعودي، فلطالما وجد المجتمع السعودي نفسه وكأنه في علاقة تعارف وألفة قديمة ودائمة بينه وبين أبناء الملك عبدالعزيز.
إِذ من الملاحظ أن هناك نوعًا من الألفة بين المجتمع وبين القيادة السعودية من أعلى هرم المُلك إلى المناصب القيادة في الداخلية والدفاع والحرس والخارجية.
وهذا يرجع إما للتقادم في القيادة أو لذلك الائتلاف القبلي والدالة الأبوية بين القيادة والمجتمع بما ينأى بطبعه عن الرأسية بمعناها الفوقي وإن كان الحكم حكمًا ملكيًا عضودًا بطبيعة الحال.
فأجيال عدة فتحت عيونها على عدد من قيادات البيت السعودي، لدرجة أن معظم أبناء المجتمع عندما يتحدثون عن شخصيات القيادة السعودية يتحدثون عنهم في الغالب دون ألقاب.
وذلك من الملك سعود، الملك فيصل، الملك خالد، الملك فهد، الملك عبدالله والملك سلمان إلى الأمير سلطان والأمير نايف والأمير عبدالمجيد والأمير عبدالمحسن والأمير طلال والأمير تركي والأمير أحمد والأمراء خالد وسعود وتركي الفيصل وكذلك الأميران خالد وبندر بن سلطان والأمراء فيصل ومحمد بن فهد.
مقتضيات الحاضر السعودي
غير أنه أمام حدة تحديات الحاضر السعودي الداخلية والخارجية ومع تبرعم أعداد متزايدة من الأجيال الشابة بالمجتمع فلا شك أن جدة بعض الرموز الشبابية على القيادة مثل ولي العهد الأمير محمد بن نايف وولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان صارت تقتضي إعادة التفكير الجدي والعمل الميداني ليس فقط في آلية، بل أيضًا في تركيبة علاقات السلطة بين البيت السعودي وبين المجتمع.. كما صارت تقتضي تجديد التعارف بعقل هذه القيادات الشابة.
وقد وجدت في لقاء مع الأمير محمد بن سلمان بمجلة الإكونمست بعض المؤشرات الدلالية على العقل القيادي، فرأيت أن تشكل محاولة الوقوف به النصف التالي من هذا المقال.
********
في العدد الأول من مجلة الاقتصادي للعام الميلادي الجديد 2016 نشرت المطبوعة حديثاً من أحاديث المصارحة مع صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان من خلال مجموعة من الأسئلة اتسم معظمها بالوضوح والمباشرة والتحدي.
وقد جرى الحوار مع الأمير الشاب من خلال صفاته المركبة ووظائفه القيادة المتعددة في الدولة.
فبالنسبة للاعتبار الأول جاء الحوار معه بوصفه شابًا سعوديًا ولد وترعرع في صلب مرحلة حافلة بمد وجزر التحولات، وبوصفه من أوائل شباب الأسرة الحاكمة الذين يوضعون وجهًا لوجه أمام تحدي انتقال سلطة مقاليد العمل السياسي إلى جيل الشباب في التاريخ القريب من الحكم السعودي الممتد اليوم لما يزيد على ثمانين عامًا.
أما الاعتبار الثاني للقاء فقد بدا أنه ينطلق في الحوار مع الأمير من خلال مسؤوليته القيادية وليًا لولي العهد وباعتباره مسؤولاً أعلى في الدفاع السعودي في مرحلة مدججة بالحروب واحتمالاتها عبر الدوائر العربية والإقليمية والحدودية مع المملكة وباعتباره مسؤولاً اقتصاديًا أعلى عن التنمية الاقتصادية وصاحب مشروع التحول الوطني.
ونظرًا لما تميل إليه مثل هذه الحوارات الأجنبية من جرأة في طرح الأسئلة وخلوها من ديباج المجاملات فقد رأيت في إجاباتها نوعًا من المكاشفة بالعقل القيادي الشاب بالمملكة في هذه المرحلة.
ولذا فقد رأيت أن من حق القارئ السعودي الاطلاع على مثل هذا الحديث مع مسؤولي الصف الأول من القيادة خاصة في ضوء جدة الأسماء الشابة وضرورة بناء جسور من التعارف معها.
وهنا أوجز بعض ما قرأته في هذا الحوار.
إطلالة على احتمالات التحولات
بادئ ذي بدء..لقد كانت الأسئلة الموجهة لولي ولي العهد من النوع الصعب ولم تتورع عن فتح الحوار في عدة ملفات ساخنة. فعلى مستوى العلاقة بالخارج تعددت الموضوعات من قطع العلاقة الدبلوماسية مع إيران إثر الاعتداء الذي تعرضت له السفارة السعودية في طهران والقنصلية في مشهد إلى موضوع معركة الحزم ومدى ضرورتها ومدتها ومن العلاقة بأمريكا كقوة عظمى في ميزان توازناتها الإقليمية ومسؤولية المملكة عن أي تحيز أمريكي لسواها إلى الموقف من الربيع ومآلاته.
أما على المستوى المحلي فقد تعددت الأسئلة أيضًا من إقامة الحدود الأخيرة في حق مرتكبي الجرائم الإرهابية إلى تدهور أسعار النفط وفجوة العجز في الميزانية ومن سؤال معضلة تعدد مصادر الدخل غير النفطي إلى سؤال عن الشباب والبطالة ومن سؤال رفع المعونات الحكومية عن السلع الأساسية وسؤال احتمال فرض نظام ضريبي في التجارة أو على الدخل إلى سؤال غياب أهلية المرأة وعدم تمكينها من ولاية أمرها بنفسها أخيرًا من سؤال تحديات القيادة في مناخ خانق من الأزمات المحلية والإقليمية.
وقد جاءت الإجابات بطريقة لا ينقصها شجاعة النقد الذاتي في بعض منها، بينما تعتمد على محك التطبيق الميداني والتفاعل المجتمعي والتفعيل السياسي لمواجهة كثير من تحديات الواقع الوطني الذي تناوله البعض الآخر من الإجابات. وأقصر النقاش لدواعي المساحة على أربع نقاط:
النقطة الأولى، تتعلق باستحقاق الربيع العربي فقد كان من اللافت تعبيره عن رأي قيادي شاب أميل لتفهم مطلب الإصلاح وحق الشعوب لاجتراحه، فلم يكن في الإجابة أي مواربة بأن الربيع العربي قد كان استحقاقاً مشروعًا لمواجهة وإسقاط تلك الأنظمة التي كانت تعجز عن تمثيل شعوبها. إلا أن الإجابة عن تمثيل النظام السعودي للمجتمع السعودي وإن عبرت عن ذكاء سياسي بردها للتشابك التاريخي بين الدولة والمجتمع في بنية المجتمعات التقليدية والقبلية وفي التدرج إلى «دولة المؤسسات» بتعبير الأمير محمد إلا أن الإجابة ككل لم توار عدم وجود استراتيجية مستقبلية للانتقال من علاقة التشابك الرعوية بين الدولة والمجتمع إلى علاقة تقوم على عقد من التضاهي بين الدولة بسلطاتها التشريعية والقضائية والتنفيذية المستقلة وبين المجتمع المدني بمؤسساته الاجتماعية والسياسية في ظل القيادة الشابة. مع ملاحظة أن ذلك لم يكن إغفالاً ولا تغافلاً على ما يبدو إِذ هناك من الإجابات ما توقف عند أساسيات مهمة لاستمرارية المملكة دولة ومجتمعًا تراها القيادة الشابة، مثل القول بحرية التعبير وبحقوق الإنسان وبالمشاركة الشعبية والوطنية في صنع القرار إلا أن كيفيات التحول إلى ذلك تحولاً نوعيًا هي التي ربما تركت لمحكات الواقع الميداني في سجال القوى الاجتماعية وجدل التحولات.
النقطة الثانية، تتعلق بواقع النساء بالمجتمع السعودي فإجابات الأمير محمد تعطي بما لا مراء فيه إجابات عقلانية على أهمية متكافئة للنساء لأي مشروع نوعي للنهوض بالبلاد مشيرًا بذلك لتمثيلها البرلماني بتعبيره إلا أنه لا يعطي إجابة شافية تعمل فيها القيادة الشابة على دعم الأهلية للنساء فيما يتعلق بتعليق مصير المرأة الحياتي والمعيشي في الحركة والعمل بموافقة الرجل.
هذا بينما يشكل مطلب التحول عن العمل بنظام ولاية الرجل على أمر المرأة وإن كانت حرة راشدة عاقلة بالغة وتمكين النساء السعوديات من الأهلية الكاملة كموطنات مطلب ملح نضيفه لتحديات مسؤوليته أهل سموه لمعالجته.
النقطة الثالثة، وهي التي تتعلق بالموقف من الصراع الإقليمي في المنطقة وعلى وجه التحديد الموقف من أمريكا وإيران. والحقيقة أن الموقف القيادي الشبابي عكس مساحة من التسامح الروحي وليس السياسي وحسب مما كان ملحوظًا في الموقف من إيران فهي الجار الذي لا نراه عدوًا ولكن لا نقبل تعديه وأما أمريكا فيعبر الموقف منها عن نقد ذاتي فحواه أن الاحترام ينتزع بمعطيات الواقع ولا يكفي فيه الاعتماد على أواصر العلاقات التاريخية.
أما مسألة العمل على خلق قاعدة اقتصاد وطني منتج مستقل عن تذبذبات وجزر مداخيل النفط الريعية ومنها رؤية خلق سياحة دينية تشكل مصدرًا للدخل كبديل للواقع الذي تقوم فيه الدولة بالصرف على هذا القطاع مع خلق بنية قانونية وبنية تحتية لجذب الاستثمارات الخارجية وخصخصة التعليم والصحة وجزء من قطاع التصنيع العسكري وتحويل أرامكو إلى شركة مساهمة عالمية والتعويل على توسيع السعودة لامتصاص بطالة الشباب فهذه باقة جميلة تحتاج لخيال اقتصادي على طريقة الخيال الاجتماعي لرايت ميلر. وهو ذلك الخيال الذي يفحص إمكانية تحويل الأحلام لحقائق. وهذا يعني عدم التردد في طرح أسئلة دقيقة على الذات القيادية وعلى الذات الاجتماعية، فإصلاح اقتصادي بمن ولمن ولصالح من وكيف ومتى وهل يمكن التحول عن الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد منتج بنفس نمط البنى والعلاقات السياسية والاجتماعية أو أن الأمر يتطلب حزمًا وعزمًا وتوسيع دوائر الشراكات والمشورة والتمثيل وفق ما يطمح له الأمير ويخطط له؟! هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد...