د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
نستغرب كثيراً لماذا وقف ويقف ما أسميناه اصطلاحاً «بالمجتمع الدولي»، موقف المتفرج من كل هذه المذابح والمجازر التي تدور في منطقتنا؟، بل إنّ بعض الدول الغربية والشرقية تشارك في بعض المجازر التي يذهب ضحيتها شيوخ ونساء وأطفال. فلا شيء في نظرنا يمكن
أن يبرر هذه المجازر، ونشعر أحياناً أن بعض دوائر الغرب السياسية والإعلامية لا تكترث لمآسينا، بينما هذه الدوائر ذاتها تبالغ في الجور والجزع بمجرد انفجار قنبلة صغيرة في أحد مقاهيها ويثبت أن مرتكب الهجوم عربي أو مسلم، حيث يستمر البكاء والعويل على الضحايا لأيام وأسابيع، ويذكّر الناس به على رأس كل شهر وذكرى كل عام. عشرات الضحايا تتساقط يومياً في مناطقنا جرّاء القصف الوحشي بأفتك أسلحة القتل الجماعي، ولا يكاد الإعلام الغربي يأتي على ذكرها وكأنما هو يعتبرها أمراً طبيعياً معتاداً. فلمَ هذه الازدواجية الصارخة في النظرة الإنسانية؟ وهل هناك معايير ومقاييس مختلفة للإنسانية وحقوق الإنسان؟
أسست الدول الاستعمارية مراكز دراسات تساعدها على فهم شعوب مستعمراتها شملت مراكز دراسات إثنية، ولغوية، وتاريخية، ظاهرها الرغبة العلمية لدراسة الشعوب الأخرى والمحافظة على ثقافاتها، وباطنها التسهيل لفهمها بهدف السيطرة عليها وتبرير هذه السيطرة أخلاقياً عند الحاجة. وقد أبرز إدوارد سعيد هذه الازدواجية العلمية في كتابة «الاستشراق»، وأوضح - بأنّ غالبية الأقسام الاستشراقية هي في عمقها مؤسسات تخدم أهدافاً استعمارية. وكان بعض الساسة البريطانيين يفاخر بأنهم استعمروا معظم الكرة الأرضية دونما حاجة للجوء لاستخدام القوة، فالصين والهند مثلاً استعمرتا لقرون طويلة عبر استغلال الاستعمار لصراعات فئات داخلية فيها. والسيطرة على الشعوب الأخرى تبرر عادة بطروحات مختلفة، تتفق عادة على الإقلال من القيمة الإنسانية للشعوب المستعمرة، بتعميمات علمية مزيفة تقدمها مدارس الاستشراق.
وكان لنا، كدول عربية إسلامية، نصيب كبير من هذا الاستشراق الذي ساهم في استغلال تناقضات مجتمعاتنا وتسهيل السيطرة عليها لقرون بشكل شل تقدمها وتطورها. وتستعين دوائر اتخاذ القرار في الدول العظمى بهؤلاء المستشرقين بصفة خبراء ومتخصصين يعرفون الثقافة والمجتمع عن قرب. وسبق وكتبت عن بيرنارد لويس الذي خدم الحكومة البريطانية في هذا الشأن ثم انتقل لخدمة الحكومة الأمريكية، وهو الذي، بحكم خبرته الواسعة بالتاريخ الإسلامي، نظّر مؤخراً لصراع طائفي شيعي سني يستمر لسنوات. والاستشراق لا يخدم المؤسسات الغربية في رسم السياسات فقط، بل ويخدمها أيضاً في تبرير هذه السياسات. والمستشرقون هم أيضاً من يمد هوليوود وغيرها بمواد أفلامها العنصرية.
وصدر مؤخراً كتاب بعنوان «الاستشراق الجديد والبربرية الجديدة» لداغ تواستاد، وهو باحث في معهد أوسلو للسلام، يشرح فيه ما آل إليه حال الاستشراق اليوم ليتناسب مع متطلبات المرحلة الحالية، مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وما بعد 11 سبتمبر الذي تُعد نقطة بارزة في السرد العنصري ضد المسلمين العرب. وفي رأي تواستاد فالاستشراق الحديث أسوأ بكثير من الاستشراق التقليدي ويتجاوزه في التشويه والعنصرية، لأنه يرسخ في ذهن المواطن الغربي، أن صفات الوحشية والجهل ورغبة الانتقام لدى العرب والمسلمين، هي صفات عرقية جينية أبدية وليست ثقافية مرحلية فقط. وأخذت وسائل الإعلام الغربية في ترويج هذه الصور بشكل منهجي ومتكرر على أنها آراء علمية لخبراء في الثقافة العربية الإسلامية. فمدارس الاستشراق الجديد هي من يقدم بعض المستشارين للحكومات الغربية، والمعلقين والخبراء السياسيين لشاشاته الفضائية. وسبق وروّج الغرب صوراً مقاربة عن الأفارقة السود إبان مرحلة العبودية، حيث نظر للعرق الأفريقي على أنه متدني الإمكانات الفكرية بطبعه، ولذا يحتاج لرعاية الرجل الأبيض الدائمة. والأفريقي حسب تصورهم آنذاك عديم الإحساس بالقيمة الذاتية والشرف ومجرد من العاطفة الحقيقة، وإحساسه بالألم أشبه بإحساس الحيوان منه للإنسان، ولذا فهو يحتاج لعنف أشد لترويضه لأنه يقصر عن فهم الإرشاد العقلي، وقتل العبد مباح إذا ما ثبت انعدام الفائدة منه لأن بقاءه ضرر على غيره من العبيد. ولو نظرنا لما مورس بحق المسلمين والعرب في قوانتانمو وأبو غريب من عنف وحشي فهو لا يخرج عن هذه الصورة الذهنية المتوارثة في المجتمع أمريكي. ويرفض كثير من أعضاء المجتمع الأمريكي والغربي العنصرية ضد السود اليوم، بينما يتقبلها ضد العرب والمسلمين!
وتحاول مدارس الاستشراق الحديثة ترسيخ تعميمات مشابهة لتك التي عممت عن السود أيام العبودية عن العرب اليوم، لتبرر كل ما يمارس بحقهم من تفرقة وعنف. فرافائيل باتاي، مثلاً، الذي رأس معهد إسرائيل للدراسات الفلسطينية الشعبية، والذي دعي للتدريس في أفضل مراكز دراسات أمريكا وجامعاتها، ومنها: كولومبيا، وأوهايو، وبنسيلفيينا، وبرنستون .. الخ. يروّج لنظرية في كتابه «العقل العربي» مفادها أن التخلف العربي ليس طارئاً بل متجذر أساسه خلل جيني في العقل العربي، وأن العربي هامشي بطبعه ويلوم الآخرين لمشاكله، وعقل العربي (الفلسطيني) عاجز عن استيعاب الديمقراطية التي تقدمها له إسرائيل!! وبنيت على كتاب باتاي مقالات لا حصر لها تحاول تشخيص الجوانب الانتقامية، والوحشية في العقل العربي بعضها اتهم العرب صراحة بالبربرية، وعلى أنهم يفتقدون للأسس الأخلاقية والفكرية التي تحتاجها المجتمعات المدنية الحديثة. وللأسف فمثل هذه التحليلات تجد طريقها لدوائر اتخاذ القرار الأمريكي عبر أشخاص مثل دانيال بايب ومستشارن آخرين كروبرت كابلان، والأخير كاتب شهير يكتب بشكل دوري في الصحف الأمريكية الكبرى وهو قريب من مراكز القرار الأمريكي.
اشتهر روبرت كابلان مذ ظهر بيل كلنتون في وسائل الإعلام متأبطاً أحد كتبه وهو «أشباح البلقان»، وحدد هذا الكتاب موقف أمريكا من حرب البلقان على أن لها أسباباً تاريخية ثأرية لا حل لها. واتبع كابلان كتابه بمقال عنوانه «الفوضى القادمة» عن غرب أفريقيا (سيراليون وساحل العاج) مهّد لظهور نظرية خطيرة جداً ألا وهي نظرية «البربرية الجديدة»، ومفادها أنّ دول العالم الثالث الفاشلة التي لم تستطع اللحاق بركب الحضارة الإنسانية (الغربية) لن تلحق بها أبداً، بل ستتفكك وتغرق في انقسامات قبلية ومذهبية وعنف بربري أبدي، لأن البربرية والوحشية مدفونة في أعماق الإنسان ولم تمت. ومن رواد هذه النظرية أيضاً أستاذ بريطاني في الدراسات الأنثروبولجية يدعى بول ريتشارد الذي حاول أن يثبت أن بعض الثقافات بربرية بطبعها. وقد عممت أمريكا مقال كابلان عن الفوضى القادمة على جميع سفاراتها، ويقال إن سكرتير عام الأمم المتحدة عقد اجتماعاً سرياً مع كبار مستشاريه لتدارس محتواه. ويرى كابلان ومن لف لفيفه، أن الصراع القادم بين الشرق والغرب ليس «صراع حضارات» كما صوّره صامويل هانتجتون، بل صراع بين الغرب المستنير المتطور وهوامش الحضارة البربرية الأخرى التي لم يصلها التنوير أو وصلها ولم تستوعبه. ويتوقعون انهيار كثير من دول العالم الثالث ومنها الدول العربية وتحوّلها إلى بؤر صراعات قبلية ودينية ومذهبية لا نهاية لها، وأنها ستغرق في «العنف البربري» الأبدي، لأن التطور الاقتصادي والثقافي الذي يقمع العنف والبربرية لم ولا يمكن أن يتعمق فيها. وذهب بعضهم إلى أن البربرية المتطبّعة لدى شعوب كثيرة في أفريقيا والشرق الأوسط، هي سبب وليست نتيجة رفضهم للتطور البشري، وما يجري في مناطقهم من عنف وحشي وحروب إنما يؤكد هذه الحقيقة، ولذا فهو أمر طبيعي في عرفهم ومقبول لديهم، وكل ما يمكن للغرب فعله هو منع هذه البربرية من الوصول إليه.