د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
استعمر الغرب معظم دول العالم لقرون، وامتص خيراتها بحجة مساعدتها على بناء نفسها. ودمرت دول التحالف ألمانيا في حربين عالميتين قتل في الأولى 17 مليونا، وفي الثانية ما يزيد على خمسين مليونا وكانت الحجج في الحربين هي إنقاذ المستضعفين بينما الأسباب الحقيقية هي نزاعات على أراض وأماكن نفوذ.
واستعان ودرو ويلسون بخبير في نفسية الشعوب يدعى إدوارد بيرنيز لتغيير الرأي العام الأمريكي من معارضين بشدة للتدخل الأمريكي في الحرب العالمية الأولى لشعب متحمس للحرب فيها، فبادر برنيس بتأسيس «لجنة للإعلام الشعبي» التي ركزت على ترسيخ مفهوم واحد لدى الشعب الأمريكي وهو أن تدخل أمريكا ضروري للحفاظ على الديمقراطية في أوربا، وأتت هذه الإستراتيجية بنتائج مذهلة ولا زالت أمريكا تقصف، وتضرب، وتغير حكومات بالحجة ذاتها. ولا بد أن أذكر هنا أن ملاك العبيد في أمريكا كانوا يبررون استعبادهم للسود بأنه نوع من تقديم الأمان والعيش المضمون لهذا العرق الذي يحتاج لرعاية الرجل الأبيض. فالعالم قد أدرك منذ زمن بعيد أهمية الجوانب الإعلامية للسياسة.
تغير الإعلام العالم مؤخراً بسبب التطور المذهل في وسائل الاتصال والتواصل، وتكررت على الأسماع مقولة مارشال ماكلوهان «العالم أصبح قرية صغيرة» غير أن العالم لم يعد قرية صغيرة فحسب بل جهاز حاسوب صغير يتناقل الناس به الصور والمعلومات بشكل فوري مما حول الصورة الإعلامية إلى سلاح مهم مؤثر في الرأي العام ومحرك للسياسات والمواقف. ولذا تعهد الدول لمراكز الدراسات ودور الخبرة لرسم الصورة المتوخاة لها خارجياً وتعمل على كافة مستوياتها على تشكيلها بالشكل المطلوب داخلياً وخارجياً. هذه الصورة الثابتة التي يصرف عليها الكثير من الجهد والمال تشكل الخلفية التي تنعكس عليها قراءة جميع الأحداث العابرة المتغيرة، وتكون هي السياق الذي تفسر بموجبه تصريحات مسئوليه.
ولنا مثل في هذا الصدد بإسرائيل وإيران. فقد تقمصت الأولى دور الضحية الضعيفة طيلة العقود التي خلت، دور الحمل المسالم بين قطيع الذئاب العربية التي ستقضي عليها وتلقي بها في البحر. تمسك الإعلام الإسرائيلي بمضمون هذه الصورة ونوع في أشكالها فقط. وأطلقت إسرائيل على جيشها «جيش الدفاع الإسرائيلي»! ولا زالت إسرائيل تتظاهر بالمسكنة والخوف بالرغم من أنها القوة الخامسة في العالم وتملك حسب معلومات قديمة 300 رأس نووي مع وسائل حملها. هذا مع العلم أن من يدعم إسرائيل في الغرب ذاته هم أثرى أثرياء الغرب وأقواهم سلطة، وأكثرهم سطوة. وإذا نظرنا لإيران التي تتبع اليوم أكثر السياسات عدوانية وتوسعية في تاريخ المنطقة فهي تملك ترسانة كبيرة من الصواريخ وبرنامجا نوويا متطورا خطيرا، و تصور نفسها دائماً بأنها حامية المنطقة «الإسلامية» من الشيطان الأكبر أمريكا وتظهر عداوة مجانية للغرب، و تبنت إيران صورة المظلوم المستهدف من أمريكا بسبب طموحها لتحرير القدس و أخذت تتوسع في جوارها بحجة نصرة المظلومين، ودفعت لذلك أموالاً طائلة لتعزيز هذه الصورة لدى الجماهير العربية التي لديها استعداد تلقائي لتصديق مثل هذه الدعاية المجانية بسبب عقود من الحشد والتعبئة الإعلامية. واليوم اتضح أن إيران ومعها كثير من الدول التي كانت تبنت خطاب تحرير فلسطين، أو ما سمي مؤخراً بممانعة التطبيع معها هي أكثر الأنظمة التي تتعامل مع إسرائيل وتحميها في السر، وأن هدفها الحقيقي السيطرة على المنطقة. واليوم تخلت إيران عن مهاجمة أمريكا كالشيطان الأكبر، وتبنت الخطاب الأمريكي بمحاربة الإرهاب، وهي تبيد السنة وتهجرهم بهذه الحجة!! وهي هنا تعلن أنها من ناحية جزء من الغرب، ومن ناحية أخرى تصف العرب الذين تحتل أراضيهم وتتدخل في شؤونهم بالإرهاب.
ولذا فتملك ناصية الاستراتيجيات الإعلامية المدروسة الثابتة أمر حيوي وربما يعادل في أهميته بناء القوى العسكرية. وهذا أمر ليس بالسهل كما قد يتصور بعضهم ويتطلب دراسات وكوادر مؤهلة لتكوين صورة إيجابية معينة لدى أكبر عدد من المتلقين، صورة تعزز وترسخ بشكل مستمر. وللأسف، فإن صورة المملكة في الخارج لا تعكس واقعها ولا واقع أهلها كبلد مسالم ومتسامح، هذه الصورة تجعل المتلقي يصدق كل خبر يقال عنها حتى ولو كان ملفقا. ولفت نظري مؤخراً نشاط وزير الخارجية معالي الأستاذ خالد الجبير في الدفاع عن مواقف المملكة سواءً في دفاعه عن تنفيذ القصاص في الإرهابيين ومنهم بالطبع النمر، أو الدفاع عن مواقف المملكة في اليمن، أو المواقف السعودية من إيران. غير أنه ما يصعب مهمة معاليه في رأيي الصورة العامة الخاطئة للمملكة في الخارج، والأفكار المسبقة حولها.
والحقيقة أني من المعجبين بمعالي الوزير وبقدرته اللغوية على التواصل مع المتلقي الغربي بلغة إنجليزية اصطلاحية، واستخدامه لمصطلحات من صميم الثقافة الأنجلوسكسونية، وكذلك قدرته على محاورة وسائل الإعلام. إلا أن لدي بعض الملاحظات حول ظهوره المتكرر في بعض المؤتمرات والبرامج الإعلامية. وهذه البرامج من أخطر الأدوات الإعلامية وبعض مقدميها يتميزون بالذكاء والخبث في كثير من الأحيان.
كان معاليه يتخذ دائماً مواقف دفاعية منطقية تلجم من يحاول أن يحرجه، وهي مواقف لا غبار عليها فكرياً وأخلاقياً ومنطقيا، ولكنها تثير بعض التساؤلات إعلامياً. فالمهم في برامج اللقاء التلفزيوني ليس المذيع بل: المشاهدين من خلفه؛ والصورة النمطية والأفكار المسبقة التي يفسر كلامه وفقاً لها وهي أهم من سؤال المذيع. والمتمرسون في المقابلات الإعلامية لا يرون ضرورة في التقيد بالإجابة المباشرة على السؤال، أو مقارعة الحجة بالحجة بل ينتقلون مباشرة إلى تغيير الصورة التي انطلق منها المذيع، أو حتى استغلال وقت البرنامج لقول أشياء أخرى يودون تمريرها على هذه المنصة الإعلامية خارج سياق السؤال بقلب القضية رأساً على عقب بتغيير صيغة السؤال. ولذا لا نستغرب أن يطلب بعض المسئولين أسئلة البرامج مسبقاً لإعداد إجابات مدروسة عليها.
فمثلاً، عند سؤال معاليه عن تنفيذ حكم الإعدام في 47 إرهابياً رد معاليه بأن بريطانيا تحظر الإعدام ونحن لا نتدخل في شؤونها، ونحن لا نحظر هذه العقوبة ولذا فعليها ألا تتدخل في شؤوننا. وهنا انتقل الموضوع لقضية عقوبة الإعدام، وهي أن السعودية تطبقها بلا قيود وهو ما سعى إليه المذيع! ثم ما هو الموقف المتوقع من المتلقي البريطاني الذي هو في معظمه ضد هذه العقوبة. وربما كان بإمكان الوزير أخذ مقدمة طويلة يعدد فيها ضحايا هؤلاء المجرمين، ووصف ضحاياهم من الأبرياء والنساء والأطفال، ويختم بالقول بأن حكومة المملكة تأسف لأنه لم يكن أمامها أي خيار آخر لأنه هذا «الحكم» ينطوي على حق خاص لأبرياء لم يتنازلوا عنه، وأن المملكة سبق وأوقفت تنفيذ بعض الأحكام في بريطانيين لتنازل أصحاب الحق الخاص عنهم. وهنا يكون الخطاب موجها للعموم لبريطاني وليس للمذيع. وفي المقابلة الأخرى مع وولف بليتزر أجاب عن سؤال مماثل، بأنه لو قتل الأمريكيون في قصف جوي عدداً مماثلاً من داعش لرقص الشعب في الشوارع. وهذه الإجابة لا شك ملجمة لبليتزر ولكن ماذا عن المتلقي الأمريكي الذي سيعتقد أن هذا تعميم مخل عليه، وأنه كأمريكي مسيحي لا يرقص لموت أي إنسان، بل قد لا يكترث بما يحدث خارج أمريكا. ولكن لو أجاب بالقول إن كثيرا ممن نفذ فيهم الحكم مدانون بقتل أمريكيين وبعضهم سبق وقتل أمريكي ووضع رأسه في ثلاجة لتغير السياق الذي سينظر به المتلقي للأحكام. وربما أضاف أن هذا جزء من حربنا المشتركة على الإرهاب لتجاوز المذيع لمن خلفه، فالإعلام غير المنطق والحيل الإعلامية تختلف عن الحجج المنطقية. والله من وراء القصد.