د. عبدالحق عزوزي
في تدخلي الأخير في مهرجان الجنادرية عن القوات العربية المشتركة، قمت بإعطاء صورة عن كيفية التأصيل لمؤسسة عسكرية عربية على شاكلة الحلف الأطلسي دون أن تعتريها التذبذبات وتقلبات الأزمنة والحكومات. وفكرتي الرئيسية تكمن في ضرورة قيادة هاته القوات العسكرية من طرف دول محورية. وهاته القاعدة ليست حكرا على المنظمات أو المؤسسات العسكرية وإنما هي سر نجاح كل تكتل جهوي أو إقليمي أو دولي.
سبق وأن كتبت في هاته الصحيفة الغراء، ما طبع تاريخ الاتحاد الأوروبي من تجارب موضوعية في ذلك، ولولا تدخل الدولتين المحوريتين (ألمانيا وفرنسا) في قيادة منظومته لما وصل الاتحاد الأوروبي إلى ما وصل إليه اليوم؛ وهذا الاتحاد مكون من 28 دولة، والدول المحورية التي قادت وتقود سفينته بإستراتيجية خارقة للعادة وبدون كلل أو توقف، سنجدها طبعا في دولتين رئيسيتين، فرنسا وألمانيا: انتخاب البرلمان الأوروبي بالاقتراع العام المباشر وخلق نظام الوحدة الأوروبية سنة 1979 كانت بتحريك من الثنائيين الألماني هيلموت كول والفرنسي فاليري جيسكار دستان؛ كما أن الثنائيين هيلموت كول وفرانسوا ميتران خلقا المستحيل للاتحاد الأوروبي (خلقا السوق المشتركة، خلقا شينغن، وخلقا العملة المشتركة، كما خلقا السياسة الخارجية والدفاع المشترك، والمواطنة الأوروبية)، كما أن الثنائيين جاك شيراك وجيراد شرودر خلقا نظام السياسة الفلاحية الموحدة ناهيك عما قام به ساركوزي ومن بعده فرانسوا هولاند مع الألمانية ميركل لإنقاذ العملة الأوروبية من الانهيار وإنقاذ اليونان من الإفلاس.
وفي هاته المقالة سنرجع إلى مثال حديث وهو الاتفاق الأخير الذي حصل بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي بشأن البقاء أو عدم البقاء في منظومته.
قال بنك إتش.إس.بي.سي قبل أيام إن الجنيه الإسترليني قد يفقد ما يصل إلى 20 في المئة من قيمته وإن النمو الاقتصادي في المملكة المتحدة قد ينخفض بما يصل إلى 1.5 نقطة مئوية العام المقبل إذا صوت البريطانيون لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء 23 يونيو حزيران المقبل.
وقال البنك في مذكرة «التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من المحتمل أن تكون له عواقب ضخمة على جميع أنواع الأصول. بعد التصويت على الخروج نعتقد أن الضبابية قد تحيط بالاقتصاد البريطاني مما سيخلق تباطؤا محتملا في النمو وانهيارا في قيمة الجنيه الإسترليني». ويتوقع البنك أن الجنيه الإسترليني قد ينخفض إلى ما بين 15 و20 في المئة أمام الدولار، وهو سيكون أدنى مستويات سجلها في منتصف الثمانينيات مما يعني أن العملة البريطانية ستتجه نحو معادلة قيمة العملة الأوروبية الموحدة. وجرى تداول الجنيه الإسترليني في هاته الأيام دون 1.40 دولار للمرة الأولى في سبع سنوات. وقد يدفع هبوط الجنيه الإسترليني التضخم إلى الارتفاع بنسبة خمسة نقاط مئوية في حين قد ينخفض النمو ما بين نقطة مئوية واحدة ونقطة ونصف النقطة المئوية بما يعادل تقريبا نحو نصف الرقم الذي يتوقعه البنك حاليا للنمو في 2017 والبالغ 2.3 في المئة.
ورغم كل هاته التخوفات الحالية، فكل متتبع حصيف للشأن الأوروبي، يدرك حجم التخوف الذي انتاب الأوروبيين وعلى رأسهم الدولتان المحوريتان أي ألمانيا وفرنسا من خروج بريطانيا من دائرة الاتحاد الأوروبي، والكل يعلم أن لبريطانيا مكانة وموقعا متميزا في سلم النظام الأوروبي والدولي بفعل قوته الاقتصادية والمالية، وقدم ديمقراطيته ومؤسساته السياسية والتنموية وتنوع روافده البشرية والحضارية. الاتحاد الأوروبي يضم 28 دولة، وهو تكتل جهوي وإقليمي يجمع دولا متعددة ومختلفة اقتصاديا وسياسيا، وتعرف حدودها في السنوات الأخيرة غيلانا غير مسبوق بسبب عوامل الهجرة والموقع الجغرافي الحساس... وقبل اجتماع رئيس الوزراء البريطاني دافيد كاميرون برؤساء الدول الأوروبية مؤخراً، كانت هناك اجتماعات متتالية بينه وبين رئيس المفوضية، ورئيس الاتحاد ورئيس البرلمان، ولقاءات وتشاورات مع الدول المحورية، قبل أن يكون هناك اجتماع محدد مع كل الدول الأعضاء. نجحت بريطانيا في فرض طلباتها، واستطاعت دول أوروبا بفضل حنكة بعض دولها المحورية تجنب الكارثة. فما هو الدرس الذي يمكن أن نستقيه من هذا المسلسل في العمل العربي المشترك؟ قبل الإجابة ذرونا نفهم حيثيات المطالب البريطانية.
- التخوفات البريطانية كبيرة في مجال الهجرة، إذ تستغل أحزاب اليمين القومي في المملكة المتحدة سياسيا التدفق غير المسبوق في تاريخ أوروبا للمهاجرين القادمين من سوريا ودول الصراعات والحروب، ناهيك عن المهاجرين الذين يأتون من بعض دول الاتحاد الأوروبي كدول البلطيق ورومانيا وبولندا؛ وبحكم القوانين الأوروبية الجاري بها العمل في الدول الأوروبية، لا تملك وزارات الداخلية قدرة كبيرة على منعها أو الحد منها؛ فرئيس الوزراء البريطاني كان بين مطرقة البقاء الاستراتيجي في الاتحاد وسندان طلبات الأطياف السياسية المنادية بضبط الوافدين على البلد وفرض قوانين داخلية في صالح البريطانيين...
- وهناك سبب يفهمه المتضلعون في تاريخ المملكة المتحدة السياسي والديمقراطي، وهو أن القوميين البريطانيين وغيرهم لا يرون بعين الرضا فرض سلطات من دول ومؤسسات حديثة العهد بحديقة الدول الليبرالية والديمقراطية عليهم، ليجدوا أنفسهم على نفس القصعة الأوروبية، حيث سيادة المحاكم الأوروبية وسلطة المؤسسات الاتحادية بما فيها البرلمان الأوروبي على أقدم برلمان ديمقراطي في العالم...
- وهناك أيضا سبب ما فتئ المطالبون بالخروج من الاتحاد ينادون به وهو أن السفينة الاقتصادية الأوروبية تأتيها رياح عاصف وتأتيها الأمواج العاتية من كل مكان، والحكيم هو من يقفز في الوقت المناسب، وإلا دفع هو أيضا الثمن، والمثال اليوناني مازال عالقا في الأذهان والأزمات المالية في إسبانيا والبرتغال وإيطاليا والركود الاقتصادي في العديد من الدول منذر بسنوات عجاف مقابل اقتصاد بريطاني يشهد نمواً متزايداً.
- كما أن الشركات الصغرى والمتوسطة التي تعج بها المملكة المتحدة والتي عليها قوام أي اقتصاد وطني، تشتكي من خلال النقابات وممثلي المأجورين واللوبيات من الحواجز والمثبطات التي تفرض عليها من العاصمة البلجيكية مقر المؤسسات الأوروبية، وترتل للناخبين دافعي الضرائب أن الخروج سيدر على الخزينة 11 مليار جنيه إسترليني، قيمة مساهمة بريطانيا في الاتحاد الأوروبي؛ ناهيك عن أن إزالة المثبطات القانونية التي تأتي من بروكسيل ستمكن بريطانيا من تحسين العلاقات التجارية خارج إطار الاتحاد.
والذي يهمنا من هذا المسلسل الذي أفضى إلى إعطاء بريطانيا وضعا خاصا في أوروبا، قبل إعلان الرئيس البريطاني على تاريخ الاستفتاء الشعبي في يونيو من هاته السنة، هو كيف تم هذا الاتفاق ومع من؟ فاجتماعات دافيد كاميرون كانت متتالية مع مسؤولي الاتحاد وخاصة مع الدول الأوروبية المحورية وبالأخص ألمانيا وفرنسا، ولأنه يستحيل عقد حوار مع 28 دولة مجتمعة، بل تم الاتفاق أولا مع الدول المحورية ليوقع الاتفاق بعد ذلك مع كل دول الاتحاد؛ وهو ما قمت بالإلحاح عليه خلال تدخلي بموضوع عن القوات العربية المشتركة في الرياض في إطار مهرجان الجنادرية الأخير؛ فأي اتحاد جهوي سياسي واقتصادي أو عسكري لا يمكن أن يكتب له النجاح بدون دول محورية لأنها القاعدة والأساس والمستقبل، وعليها أن تتسم بالحكمة والصبر والترفع عن المصالح الضيقة وامتلاك نظارات إستراتيجية... قارن معي: دول صغيرة كبولندا مثلا انتقدت بحدة المقايضات البريطانية إلى حد التأكيد أن صبرها نفد من جراء المطالب البريطانية، أما دول كألمانيا وفرنسا، فلم تتفوه بكلمة سلبية واحدة ضد كاميرون بل قادتا عمليات الحوار والتوافق، وأوجدتا الحلول؛ وبعد التوقيع على الاتفاق، ثمنتاه باسم دول كل الاتحاد وتمنيتا التوفيق لكاميرون لإقناع شعبه في التصويت بنعم للبقاء في أوروبا. هاته هي الدول المحورية!!!