د. عبدالحق عزوزي
أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون الإسلام دينا، وأراد به الناس أن يكون سياسة، والسياسة قاصرة محدودة والدين عام إنساني شامل، وممارسة السياسة باسم الدين أو مباشرة الدين بأسلوب السياسة يحوله إلى حروب لا تنتهي وتحزبات لا تتوقف وصراعات لا تخمد وأتون لا يهمد، فضلا عن أنها تحصر الغايات في المناصب وتخلط الأهداف بالمغانم وتفسد الضمائر بالعروض، ولقد ناديت مرارا مع آخرين بضرورة خلق تكتلات وأحزاب محافظة يمينية بدلا من أحزاب إسلامية يمينية.
فالدين للجميع ولا يجب أن يمس بالانتهازية السياسية وبأعمال الجهال غير المبصرين ولا يجب أن تذوب قيم الإسلام السامية في سلوكيات السياسيين وفي تمثلات المجال السياسي العام: ما يقع اليوم في بعض الدول أفضل دليل على تذبذبات المجال السياسي العام في بيئة انتقالية معقدة: إذ بمجرد ما تتزعزع أركان المواثيق السياسية بحادثة أو واقعة أو خروج المتظاهرين إلى الشوارع والميادين وينتقد الخاص والعام الأحزاب بما في ذلك الأحزاب السياسية التي في الحكم، يزج بالدين وبطريقة غير مباشرة، في متاهات باطلة فيضطرب كل من الفهم الديني والعمل السياسي ويضطرم كل خلاف وأية خصومة ما دامت تكتسب من الدين قوة عاطفية وتقتبس من الشريعة فورة عارمة: عندما تنتقد هذه المعادلة فإن الدين هو الذي ينتقد ويزج به إلى حلبة للصراع ما أنزل الله بذلك من سلطان.
ولنرجع بالذاكرة شيئا إلى الوراء. في المظاهرات التي كانت قد تلت منذ سنوات مقتل الناشط السياسي المعارض التونسي شكري بلعيد، دروس يجب أن تعيها كل الأحزاب: فالهتافات الصارخة حتى من أولئك الذين كانوا قد صوتوا على حزب النهضة، تعني انتقاد استفراغ الإسلام في شكل سياسي وانتقاد استحواء الدين في صيغة حزبية، وهذا أمر شديد الخطورة على الدين والإسلام والمسلمين والبشرية جمعاء... والمظاهرات اليومية التي كانت قد عرفتها مصر منذ سنوات لم تخرج عن القاعدة: فالمتظاهرون المصريون المناوئون للحكومة والذين يشعلون الإطارات أمام بوابة قصر الاتحادية الرئاسي في القاهرة كانوا ينتقدون، بوعي أو بغير وعي، أناسا ينقلون إلى ساحة الدين مكائد السياسة ودناءة أساليبها، ويباشرون أمور الإسلام بألاعيب الأحزاب ووصولية وانتهازية طرائقها،لأن السياسة حيلة وذكاء ودهاء ومكر وخديعة؛ فعار ثم عار أن يجعل من التدنيات السياسية والتلاعبات الحزبية مثلا دينية عليا دون نسيان الاثار السلبية الوخيمة على جماعة المسلمين.
التجربة المغربية هنا تجربة استثنائية لأن المجال السياسي العام في هذا البلد مختلف أيما اختلاف عن الدول السالفة الذكر: فالملكية في المغرب لم تمنع يوما من الأيام التعددية الحزبية السياسية؛ صحيح أنها كانت تحت المراقبة في سبعينيات القرن الماضي، ولكن عدم منعها مكنها من مزاولة الشأن السياسي والشأن العام والدخول في مفاوضات مباشرة وغير مباشرة مع النخبة السياسية في الحكم، إلى أن وصلت المعارضة الاشتراكية إلى الحكومة في أول حكومة ائتلافية سنة 1997 والتي ترأسها آنذاك الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي؛ وعندما وصلت تذبذبات الثورة التونسية إلى كل الدول العربية، كان المجال السياسي المغربي مهيأ مقارنة مع المجالات السياسية العربية الأخرى، ومحاطا بهالة من التجربة الدستورية والسياسية والانتخابية. وصلت حكومة العدالة والتنمية إلى الحكم وهو حزب إسلامي تحالف في البداية مع قوى أخرى كحزب الاستقلال (الذي خرج فيما بعد من الحكومة) وحزب التقدم والاشتراكية: وبين الحزبين الأولين مرجعيات وإيديولوجيات متشابهة، فحزب الاستقلال حزب يميني محافظ وهو حزب علال الفاسي وعلماء القرويين والمناضلين الوطنيين ولكن بين حزب العدالة والتنمية وحزب التقدم والاشتراكية بون شاسع لأن الثاني حزب له مرجعيات وإيديولوجيات سياسية اشتراكية ومع ذلك تحالفا في الحكومة الحالية، فالسياسة اتجاهات وحسابات ومصالح وتحالفات لابد منها وإلا كبر أربعا على وفاة السياسة والمجال السياسي العام.
حزب العدالة والتنمية المغربي استفاد من مجال سياسي عام منفتح متواجد منذ زمن بعيد؛ واستفاد منه المجال السياسي العام بفضل عقلانيته السياسية مقارنة مع الأحزاب الإسلامية العربية الأخرى؛ ولولا هذان الشرطان لفسدت التجربة المغربية.
في دول كمصر، الأحزاب الإسلامية لم تستفد من مجال سياسي عام متواجد منذ زمن بعيد ولا يستفيد منها المجال السياسي العام نظرا لقلة تبصرها لتصبح في النهاية تيارات ذات لون ديني ولكن بأخلاقيات السياسة وجعجعة التحزب وطنطنة الشعارات... وتظن أنها الوحيدة في الحلبة السياسية فيشتد حمى التنافس داخل التيارات نفسها وتتوافق قوى عندما تتناقض أخرى وتتألف جبهات عندما تتقطع أخرى فتبدو الأمور في المجال السياسي العام مضطربة مختلطة مهتزة وغامضة فتضيع للأسف مصالح البلاد والعباد.
التجربة المغربية تجربة استثنائية وفريدة مقارنة مع التجارب الحديثة في تونس ومصر، ولكن مع ذلك فأملي أن يقع تحالف وزواج دائم بين الأحزاب اليمينية لتصبح أحزابا محافظة يمينية على شاكلة تلك التي وجدناها في تاريخ ألمانيا وبريطانيا حتى لا يطفئ بعض الجهلة من السياسيين الذين يتحدثون داخل المجال السياسي العام، شعلة الدين لأنه للجميع.. وضرر ظهور السياسة على الدين له عواقب على شاكلة الزلازل القوية والبراكين الحامية والرياح العاتية التي إذا اشتعلت راحت الدولة»في شربة ميه « ولله عاقبة الأمور.
الدول لا يمكن أن تصنع عظمتها إلا نخبها وأفرادها، ويتحملون مسؤولية كبيرة مع الله ومع العباد... الدول هي لمجموعة العناصر المكونة لها، أما وأن تعتقد الجماعات الإسلامية أو شخص ما أو عصبة معينة أن لهم حق الوصاية على الناس، بحكم انتماءاتهم أو الأفضلية، ويقومون بإملاء مايرون على الناس بالتقية أو بالاستدراج الذكي، أو بالقوة والعنف، فهو من نفث الشيطان لا من وحي الرحمن الكبير المتعالي... إن للسياسة وتسيير البلدان شروطا وقواعد، سماتها سمات عالمية، تتغير فقط بعض من بنودها البسيطة حسب الأحوال والأمصار وطبائع البشر، وكلما كانت هناك جماعات فاشية كما ظهر ذلك في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي في أوروبا، أو كانت هناك جماعات سياسية دينية تدعي أنها تملك حق الوصاية على رقاب الناس في الداخل والخارج إلا وكان مآلها الفشل، ولكن بعد أن تأتي للأسف الشديد على الأخضر واليابس... وكم من قادة منظرين لقواعد التفكيك والخراب في داعش كانوا في أحزاب لإسلامية تربوا في إيديولوجيتهم، ورفعوا بها أمجادهم الخاوية على عروشها لا أحياها الله بعد مماتها...فانفجرت الحروب المذهبية والطائفية داخل البلد الواحد وعبر الحدود، وتغيرت بعض الأنظمة السياسية لكي تصل دولها إلى مرحلة التفكك كليبيا مثلا، وليسيطر فاعلون إرهابيون مسلحون وميليشيات مسلحة على أراضي شاسعة في منطقة الشرق الأوسط. ومن يقرأ التقرير الذي كان قد أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية حول الإرهاب في العالم يبقى مصدوما، لأن جزءا كبيرا من هذا الإرهاب العالمي هو من عقر دارنا وترعرع في مجتمعاتنا ليصبح فيروسا لا يخمد. فحسب التقرير، فإن الهجمات الإرهابية وقعت في 95 دولة خلال عام 2014 ولكن ركزت بشكل أساسي في منطقة الشرق الأوسط وجنوب آسيا وغرب أفريقيا، بينما تصدرت سوريا في عدد الوفيات بنسبة 80 في المائة من إجمالي الوفيات. وأكد التقرير أن منطقة الشرق الأوسط لا تزال المسرح الرئيسي للأنشطة الإرهابية في عام 2014 مع تصاعد نفوذ تنظيم داعش وتفاقم الصراع في سوريا وعدم الاستقرار في العراق، إضافة إلى الوضع الأمني الهش في اليمن وليبيا.
وأبرز التقرير الصادر في 388 صفحة صعود التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق خلال عام 2014 مثل تنظيم داعش، و»جبهة النصرة» والتنظيمات التابعة لـ«القاعدة»، مشيرا إلى «الاستيلاء غير المسبوق» على الأراضي في العراق وسوريا من قبل تنظيم داعش. وقال التقرير إن الإدارة الفاشلة في اليمن وسوريا وليبيا ونيجيريا والعراق خلقت بيئة مواتية لظهور التطرف والعنف، واستخدمت الجماعات الإرهابية مثل «داعش» هجمات أشد عنفا، وشمل ذلك القمع الوحشي للمجتمعات الخاضعة لسيطرتها وقطع الرؤوس بهدف ترويع المعارضين، واستهدف «داعش» الأقليات الدينية مثل المسيحيين والإيزيدين، وأيضا المسلمين من الشيعة، والقبائل السنية الذين تحدوا حكم «داعش».
منذ سنوات وأنا أكتب مع زملاء آخرين مقتدرين من كل الأطياف الفكرية والانتماءات الوطنية بالأدلة والبراهين، أن تسييس الدين وتديين السياسة خطر على الدين وخطر على السياسة، فذلك مؤذن بالخراب والهدم، وموسع لشرايين الإرهاب، خاصة عندما يعلن أهلها أنهم حزب الله، والآخرون عن بكرة أبيهم جاهليون، فيجعلون من فهم الإسلام قعقعة حرب وطنطنة فتنة، فيسيئون إلى التاريخ وإلى الأفراد والخليقة وإلى الدين: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.