د. عبدالحق عزوزي
أستسمح القارئ الكريم في هاته المقالة، الابتعاد عن العواطف الذاتية التي تثيرها مثل ما تتفضل به دول تريد أن تعطي للآخرين دروسا في العدالة والحرية والعيش المشترك، وهي بعيدة عنها بعد ما بين المشرق والمغرب،
وأخص بالذكر هنا إيران، التي نعت ومازالت تنعي غياب هاته الفضائل السياسية والأخلاقية في الدول العربية والإسلامية، للدخول في تفسير وتشخيص قانوني واستراتيجي، لنحل في ساحة رجال القانون الذين هم على شاكلة الأطباء، لا يحتكمون إلى الظواهر ولكن إلى التشخيص المحكم للفهم والشرح.... والقانوني، عندما يدرس أي نظام سياسي فإنه يدرسه قوانينه المسيرة وعلى رأسها القوانين السامية، أي الدساتير: ودعونا نفهم انطلاقا من الدستور الإيراني طبيعة النظام السياسي الإيراني وأهله.
فالنظام قائم على الشخصنة السلطوية في ظل غيبة الإمام المنتظر الذي طال مجيئه ولا يعرف أحد متى يأتي، وأعني بذلك ولي الفقيه الذي يعلي ولا يعلى عليه، والذي وصفته المادة 107 من الدستور بأنه «المرجع المعظم والقائد الكبير للثورة الإسلامية العالمية، ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية، سماحة آية الله العظمى الإمام الخميني (قدس سره الشريف) الذي اعترفت الأكثرية الساحقة من الناس بمرجعيته وقيادته» فالسلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية تمارس صلاحياتها بإشراف ولي الأمر المطلق وإمام الأئمة (المادة 57)، فمهمته مهمة مركزية في نظام الحكم الإيراني، وهو المتفرد بالمرجعية الدينية لكل الشيعة في العالم، دون اكتراث للحدود الجغرافية والسيادات الوطنية. ولحماية هذا النوع من التواجد السلطوي في دواليب الدولة، فإن للقائد ممثلين يعينهم يبلغ عددهم نحو ألفي ممثل في كل مؤسسات الدولة وأجهزتها وفي الوزارات والسفارات والمراكز الثقافية، كي تتمكن أسس الثورة من البقاء انطلاقا من «ممثلي الإمام». وهاته السلطات والصلاحيات أتاحت للقائد بإنشاء «دولة داخل دولة» وما يعنيه ذلك من سريان نظام وقواعد غير مكتوية وأخرى مكتوبة تكون فوق القانون والصلاحيات المشروعة المتعارف عليها، بلباس ديني ثوري مطلق. ولا غرو أن ترتفع أصوات حتى من داخل فقهاء الشيعة الذين قيدوا الفقيه العادل بالولاية الخاصة وليس بالولاية العامة المطلقة، لأن ذلك في نظرهم، ستعطيه تسوية مع مقام «الأئمة المعصومين» وهذا ما لا يمكن تأييده بعقل أو دين حسب رأيهم. ولا يجب أن ننسى أن هاته الصلاحيات المطلقة تتعدى بطابعها الثيوقراطي والأسطوري والسلطوي ما كان يتهم به الخميني نفسه الشاه محمد رضا بهلوي على انه نظام سلطوي مستبد وأبوي.
والنظام قائم على مؤسسات دستورية نافذة موضوعة مباشرة تحت سلطة الولي الفقيه، منها: -مجلس صيانة الدستور الذي يترأسه حاليا آية الله «أحمد جنبتي» والذي له صلاحيات حساسة بما فيها الإشراف على انتخابات مجلس خبراء القيادة ورئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الشورى الإسلامي وعلى الاستفتاء العام؛ - مجلس تشخيص مصلحة النظام الذي يترأسه حاليا علي اكبر رفسنجاني؛ - مجلس الخبراء الذي قام بعد وفاة الخميني بانتخاب خامنئي لمنصب الولي الفقيه إلى حين وفاته وقام بعزل آية الله منتظري من منصب نيابة الإمام الخميني؛ - مجلس الأمن القومي الأعلى، وأمينه الحالي هو وزير الدفاع السابق الجنرال علي شمحاني؛ - مجلس إعادة النظر في الدستور؛ - لجنة الثورة الثقافية التي تعنى بخلق أجيال جديدة تتبنى قيم الثورة وتكون مصدر قوة للدولة. ثم لا يجب أن ننسى «الحرس الثوري» المنبثق من «اللجان الثورية» وهو الجهاز العسكري الموازي للجيش والذي يخضع خضوعا مطلقا لإيديولوجية الثورة والتوجيهات العليا للدفاع عن خط القائد داخل إيران وخارجها والدفاع عن المستضعفين في الأرض أينا كانوا عبر عملية تصدير الثورة التي تتيح كل شيء بما فيها خلق الفتنة وزعزعة أركان الاستقرار والقشرات الحامية للدول والشعوب.
ولا عجب أن يكشف القائد العام للحرس الثوري الإيراني اللواء محمد علي جعفري عن وجود نحو 200 ألف مقاتل يرتبطون بالحرس الثوري موجودين في عدد من دول المنطقة، ملقيًا المزيد من الضوء على التورط الإيراني في الحروب الدائرة فيها، في حين كشفت مصادر متابعة للملف الإيراني أن خسائر إيران البشرية تزايدت في سوريا خلال الشهرين الماضيين لتتجاوز ما نسبته 18 في المائة من الخسائر الإجمالية لإيران في تلك الحرب. وأكد قائد الحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري حسب ما تناقلته وسائل الإعلام العربية والدولية، جاهزية نحو 200 ألف مقاتل في سوريا والعراق واليمن وأفغانستان وباكستان، معتبرًا أن التحولات في منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة «إيجابية»، حسبما ما أوردته وكالة مهر الحكومية. وقال جعفري إنه يتطلع إلى «تشجيع» الجيل الثالث من «الثورة» لدعم «ولي الفقيه» والجمهورية الإسلامية في إيران، لافتًا إلى أهمية حضور الشباب الإيراني في معارك سوريا والعراق واليمن. وكان جعفري يتحدث في مراسم تأبين القيادي في الحرس الثوري «حميد رضا أسد الله» الذي قتل في نهاية ديسمبر (كانون الأول) في حلب. ويلقي كلام جعفري بعضًا من الضوء على الدور الذي يلعبه الحرس الثوري في دول المنطقة. ويعمل الحرس الثوري خارج إيران عبر ذراعه الخارجية «فيلق القدس»، وهو فيلق يرأسه الجنرال قاسم سليماني. ويركز هذا الفيلق حاليًا على العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن، كما كان يعمل في أفغانستان وشمال أفريقيا. وفي هذا السياق، يدرب الحرس الثوري الخلايا الإرهابية من جنسيات عربية في معسكر «الإمام علي» في شمال طهران، ومعسكر «أمير المؤمنين» في كرج غرب طهران، وفي معسكر «مرصاد» شيراز الذي يعتبر من أهم مراكز تدريب المقاتلين الأجانب.
فالحرس الثوري إضافة إلى الباسيج وأنصار حزب الله هي ركائز النظام المتشبعة بدرجة كبيرة من الالتزام الإيديولوجي وهي المدججة بقوات بحرية وبرية وجوية وترسانة عسكرية ضخمة من الصواريخ والدبابات والطائرات المقاتلة والغواصات تحت إشراف الفريق محمد جعفري.
إذا فهمنا من خلال هاته الإطلالة السريعة نوعية النظام القائم في إيران فهمنا كل شيء. سنفهم أن لعب إيران على الوتر الطائفي مسألة وجود إيديولوجي لإيديولوجية ولاية الفقيه؛ سندرك أن تصدير مشروع الثورة الإيرانية لن تكون إلا من خلال استعمال أدوات مذهبية باستغلال وتجييش طائفي لبعض الشيعة العرب وغيرهم في المنطقة العربية لنشر مبادئ ومرتكزات الثورة، كل ذلك لتعزيز المصالح القومية الإيرانية، والتمركز داخل النظام الإقليمي وابتزاز الخصوم والأنداد وهو ما يؤدي طبعا إلى إضعاف مؤسسات الدولة بأسرها كما هو شأن العراق وسوريا ولبنان واليمن. وعندما يكون الاستقطاب الطائفي مصحوبا بالعسكرة والتجييش فصل صلاة الجنازة على الوحدة الوطنية وديمومة المؤسسات واستقرار مصالح الخاص والعام التي عليها قيام الدول والأمصار. قارن معي في الختام: في الدول العربية التي تعرف غياب الاستقرار، ما هي الدول الأكثر عرضة لصراعات لا متناهية ومعقدة؟ طبعا هي الدول التي اخترقها النفوذ الإيراني، ومبدأ المولاة لولي الفقيه الذي يعطي الأوامر من طهران، على حساب وحدة الدول والخضوع للسلطة السياسية بعمليات التحريض المذهبي، وإيقاد نار العصبيات والفتن الطائفية ما ظهر منها وما بطن وبين مكونات الشعب الواحد، والنظام العربي اليوم مطالب اليوم وأكثر من أي وقت مضى ببلورة استراتيجيات حمائية مقاومة متجددة وذكية تمكن من الاحتواء والردع وإيقاف عملية الاختراق الإيراني لصفوفه بعد عملية «التقية› شبه الناجحة في سياسته مع «الشيطان الأكبر» لرفع العقوبات وجلب الاستثمارات الغربية، ومع «العدو الروسي» لإبقاء نظام الأسد وأهله.