عبدالعزيز القاضي
والقلطة هي الفن الشعري المعروف هذه الأيام باسم (المحاورة) وإلى وقت قريب باسم (المرادّ) بتشديد الدال، وكذلك (الرِديّة) بكسر الراء وتشديد الياء، وهذا المصطلح هو اسمها الأشهر، ويقال إن المحاورة كان يُطلق عليها في الحجاز قديما اسم (المبادعة).
والمحاورة سجال شعري فوري مرتجل يدور بين شاعرين وصفّين من المرددين، وجمهور حاضر في ساحة معدة لها تسمى (الملعبة)، فينشد أحد الشاعرين بيتاً ليردد بعده أحد الصفين الشطر الثاني منه، والصف الآخر الشطر الأول، وقد يصاحب الترديد تصفيق وتمايل ورقص.. ويظل الصفان يرددان حتى يوقفهما الشاعر الآخر بإشارة منه لينشد بيته أو الشاعر الأول لإنشاد بيته الثاني لأن أغلب المحاورات تقوم على بيتين بيتين.
ومتعة المحاورة لا تكمن في إنشاد الشعر وغنائه وترديده فقط بل تكمن في الحوار المعمى والمعنى المستور الذي يدور بين الشاعرين. وأبرز سمات المحاورة كما قلت في حديث سابق ثلاثة: التحدي، والتعمية والتلميح، وتوظيف الحكمة والمثل.
والمحاورة أشبه ما تكون بمباراة في كرة القدم إذ تجري على طريقة (الكر والفر) بأسلوب (الفتل والنقض). وهي بلا شك صورة حديثة مطورة لفن (النقائض) الذي راج في العصر الأموي. و(الفتل والنقض) هما لب المحاورة، وبهما يتعلق نجاحها أو فشلها.
وعودة إلى أسماء هذا الفن الذي صدرت به هذا الحديث، استوقفني قول كاتب متطوع للتعريف بالمحاورة في موسوعة (ويكيبيديا) على الشبكة: «توجد تسمية غير حجازية لهذا الفن لدى المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية وما جاورها وهي اصطلاح (قلطة) وهذه التسمية غير صحيحة وليس له أصلاً في الحجاز لأنها تخالف معنى المحاورة وليس لها دلالات منطقية مثل ردية أو محاورة أو مبادعة والتي يفهم من (الأخرى) معنى الشعر أو الارتجال أو الحوار ولكن (قلطة) مشتقة من كلمة (أقلط) ومعنى يقلط أو أقلط -وهي كلمة شمالية- معناها تفضل سواء بالدخول أو على الطعام و(أقلط) موجودة في الحجاز قديماً وتستخدم في نطاق ضيق الآن ولكن لا تناسب الموضوع الذي نحن نتحدث عنه وهذه التسمية من الأخطاء الشائعة، وبما أن الفن الذي نتحدث عنه أصله حجازي وبما أن أهل الحجاز لا يصفون هذا الفن بهذه التسمية (قلطة) لذلك نحن نستبعد هذه التسمية ولا نرى استخدامها» انتهى كلامه.
قلت: ولا يخفى ما في هذا الكلام من تعصب وجرأة وتهور في إطلاق الأحكام بناء على استنتاجات واستقراءات شخصية قاصرة. فـ(القلطة) ليست كما قال مصطلحاً خاصاً بالمنطقة الشرقية، ولا أعلم ماذا يقصد بقوله (وما جاورها) ولا أعلم لماذا خص المنطقة الشرقية مع أنها أقل شهرة واهتماما بهذا الفن من نجد والكويت على سبيل المثال، ولعل ثقافة الكاتب مستمدة من الصحف والمجلات الشعبية، ومن لافتات مكاتب متعهدي تنظيم حفلات المحاورة.
والقلطة مصطلح معروف متداول في نجد والشمال وشرق الجزيرة عموماً بما فيها دول الخليج التي تهتم بهذا النوع من الفن، وأظن أنه المصطلح الرسمي لها في تلك المناطق، أما المصطلح الشعبي فهو (الردّية).. ثم إن (القلطة) ليست مأخوذة من (اقلط) بمعنى تفضل، كما ذكر الكاتب، كما أنها ليست كلمة شمالية فقط كما يزعم، بل نجدية صرفة، ومناطق نجد والشمال والشرق لهجاتها متقاربة الألفاظ والمعاني، لذا فإن تخصيص الكلمة بأنها (شمالية) جهل.
(القلطة) كما أتصور مأخوذة من قولهم: فلان قلط على فلان، إذا تجرأ عليه وتحداه وربما قتله، وفي الأمثال العامية والعبارات الشعبية النجدية القديمة قولهم في قصة رمزية: (من ذبح شيخ البلنزى؟ من قدر يقلط عليه؟)، وهو بيت شعر، وأورد العبودي في معجم الحيوان عند العامة 517-2 في مادة (شيخ)، ما يلي:
«وشيخ البَلَنْزَى: الجُرَذ الكبير، قالت جارية:
من قتل شيخ البلنزى؟
من جسر يقلط عليه؟
تعني بذلك الجرذ، فأجابها:
ابن عمك شوق بنتك
اللي يفتل شاربيه
ورضي بذلك، وشوق بنتك يعني حبيبها وزوجها» انتهى.
قلت: وعبارة (ورضي بذلك) توحي بأن الأمر معكوس، فكأن السائل هو الرجل والمجيب هي الجارية.
و(قلط) بهذا المعنى من الألفاظ المنحسرة بسبب انحسار مجالها بعد استقرار البلاد واستتباب الأمن بتوحيدها ولله الحمد، وهذا غائب بالطبع عن معرفة الكاتب ولا يلام عليه بل يلام على المجازفة بنبذ مصطلحات الآخرين والاستخفاف بها ومصادرتها بلا مبرر مقنع.
وإذا كان معنى (القلطة) هو (المواجهة)، فإن (شعر القلطة) هو شعر المواجهة والتحدي بجرأة وجسارة،
وعلى هذا أظن أن مصطلح (القلطة) أدق في الدلالة على (المحاورة) في نجد وشمالها وشرقها من كل المصطلحات الأخرى التي ذكرها الكاتب. وكون هذا المصطلح غير معروف في الحجاز الذي نشأت فيه (المحاورة) كما هو رائج، لا يعني نبذه وأطراحه بزعم أنه بعيد عن مفهوم المحاورة، ولا يجوز كذلك وصفه أنه (خطأ شائع).
(القلطة) هو المصطلح الرائج للمحاورة في نجد وشمال وشرق الجزيرة العربية حتى بداية الثمانينيات من القرن الهجري المنصرم تقريباً، وما بين تلك الفترة إلى بداية الألفية الميلادية الثانية تقريباً وهي فترة تقارب نصف قرن، كان المصطلح الرائج في نجد وغيرها هو (الردّيّة)، قال شاعر عنيزة المرحوم علي أبو ماجد (ت 1383هـ):
ياما سريت مشيح لا جلّب الليل
أدوّر القلطة يعورف حصاني
وأبو ماجد -رحمه الله- أحد فطاحل شعراء القلطة في زمنه وعاش شطراً كبيراً من حياته في مكة المكرمة، وشارك في تأليف أول كتاب منشور في هذا المجال وهو (أول خلطة من شعر القلطة) الذي صدر عام 1380هـ.