عبدالعزيز القاضي
قلت آه ياوجدي على فايت فات
والبل وإن بُوّي لهن يدلهنّي
(...)
هذا بيت له قصة ولا أعرف قائله, وقد سمعته مع قصته من الوالدة رحمها الله قبل سنين تولت, ولم أجده في كتاب منشور, ولم أسمعه من راوية لا مشهور ولا مغمور, حتى بعد انتشار وسائل التواصل السريع, ويبدو أنه مات مع قصته الطريفة بموت قائله, ولعلنا نحييه في هذه السياحة, ولعل أحد القراء ممن يعرف عن قائله شيئا يوافينا..
يقولون إن رجلا توفيت زوجته فتزوج أرملة توفي زوجها قريبا, وكانت امرأة مثالية, عاقلة رزينة تقوم بواجباتها على أحسن ما يكون إلا أنها كانت قليلة الكلام (عذروب!), فكانت تجيب فقط ولا تبادر, وفي يوم من الأيام دخل زوجها البيت فرآها منهمكة في أداء أعمالها اليومية منشغلة فيها, فسلّم وردت باقتضاب, لا من موقف بل من عادة وطبع, فوقف متكئا على الباب ينظر إليها متعجبا من حالها, فخطر له أن يسبر غورها باستفزاز مشاعرها بأسلوب لا يفطن إليه إلا النابهون ذوو القلوب الحية فقال معرّضًا:
قلت آه ياوجدي على فايت فات
والبل وإن بُوّي لهن يدلهنّي
ويقصد بقوله (فايت فات) زوجته السابقة, والبل: الإبل, بُوّي لهن, بضم الباء وكسر الواو المشددة: وُضع لهن البوّ, والبو, جلد الحُوار وهو ولد الناقة بعد ذبحه وأكل لحمه, يحشى تبنا ويقرب من أمه لتدر اللبن عليه وتطمئن نفسها برؤيته (فصيحة).
والمعنى أنه يتحسر على زوجته السابقة, ويصف زوجته الحالية بأنها مثل الناقة التي فقدت حوارها فصنعوا لها البوّ لتطمئن, فكأنها استعاضت عن زوجها السابق بزوج آخر على طريقة (بدال الزوج زوج).. ألقى البيت على مسامعها لكنه لم يكد يفرغ من إلقائه حتى نهضت غاضبة كالملسوعة قائلة على الفور:
هات الثلاث وخل عنك التنهّات
والكل من فارق خليله يونّي
كان أنت تبكي لك على فايت فات
دونك جروحي ما بعد دِيوْيَنّي
والثلاث المطلوبة في البيت الأول هي ثلاث الطلاق.. فتعجب الرجل من رد فعلها العنيف, وفوجئ بفيض مشاعرها ورقة أحاسيسها, وأدرك أنه أثار بركانا من العواطف الحزينة المكبوتة في أعماقها, وعرف أن سكوتها لم يكن سكوت غباء أو جهل أو عدم إحساس بل كان سكوت ألم وحزن ووفاء, وأنها لم تكن تبدي مشاعرها احتراما له وحفظا لحقوقه وكرامته.
فلما استوعب ردة الفعل, وأدرك سعة ذكائها وفطنتها, وشدة عارضتها, وسرعة بديهتها, وعمق فهمها للتلميح, وقدرتها الشعرية المتمكنة.. أحس نحوها بميل شديد, وارتفعت مكانتها في قلبه فازداد تعلقا بها, وعاش معها بقية حياته في سعادة وهناء.