عبدالله الغذامي
كنت مرة في زيارة علمية لجامعة واشنطن في سياتل، وبعد أن ألقيت محاضرتي عن الدراسات الثقافية في العالم العربي، ذهبت للتجول في ميادين الجامعة بصحبة بعض الطلبة الأمريكيين الذين كانوا عندي في القاعة، ومررنا بعرض تقدمه طالبات فلسطينيات ومعهن بنات متضامنات مع القضية الفلسطينية، وفيه معروضات عن فلسطين من ملابس وتسجيلات شعبية وصور عن البلدات والناس ونظام الحياة الفلسطينية، وكان عرضاً ثقافياً ذكياً وبسيطاً ويستحضر اسم فلسطين وقضيتها أمام الأبصار بصيغة فعالة وإنسانية وثقافية. ولاحظ الطلبة أني توقفت طويلاً أمام المعرض، أتحدث مع وأتساءل عن كل مادة معروضة، ثم اشتريت كوفية فلسطينية وطوقت بها عنقي، وحين أخذنا طريقنا في الميدان سألني الطلبة: هل أنت فلسطيني...!!!! (مع أنهم كانوا يعرفون أني من السعودية) فقلت لهم: أظن أن كل عربي هو فلسطيني بالضرورة الثقافية والحقوقية، وأخذت بشرح فكرة التلاحم بين العرب، مهما تنوعت دولهم، وأن التلاحم يشتد كلما وقعت إحدى بلدانهم في مشكلة كبيرة مثل مشكلة احتلال فلسطين ومضي أربعة عقود على هذه المأساة، (كانت القصة عام 1990)، وكنت أقرأ في وجهوهم علامات الاندهاش من قوة كلامي عن فلسطين بأسلوب يروي مأساة أمة كاملة وليست مجرد قضية سياسية خلافية، كما هو تصورهم الذي طرحوه لي أثناء الحديث، ومضيت أشرح لهم فكرة التضامن في المفهوم الثقافي العربي واستعنت بقصة الأعرابي الذي سئل: أيُّ أبنائك أحب إليك فقال: الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يحضر، والمريض حتى يشفى.
وبنيت عليها فكرة التحالف الوجداني لمفهوم أن العرب جنس بشري واحد وبوجدان شعوري واحد، وأن التعدد في البلدان وليس في الوجدان، وأنهم مثل حال ذاك الأعرابي يشتد الشعور أو يتراخى حسب الحال الظرفي، وبما أن الظرف الفلسطيني بلغ أقصى حالات الظروف البشرية بسبب الاحتلال من جهة وبسبب تخلي دولة عظيمة مثل أمريكا عن القضية وانحيازها مع المحتل. وهذا ما دعا أحدهم أن يسأل: هل تكره أمريكا لهذا الموقف، فقلت له: إني أحب أمريكا المتحضرة لكني أشجب سياساتها المنحازة، وأمريكا بالنسبة لي هي المكروهة المحبوبة، وكأنها كائن أسطوري يجبرك أن تحبه ويجبرك أن تكرهه، في آن واحد. وحين وصلنا نقطة الوداع، طلبوا مني تكرار مقولة الأعرابي وسجلها واحد منهم على ورقة في كراس مذكراته، وتوادعنا، وأنا أردد عليهم جملة، «والمريض حتى يشفى»، وفهم الجميع مقصدي.