عبدالله الغذامي
كلما ناقشنا مسائل الأزمات الثقافية جاء سؤال الحل، وهذا أمر يقتضي التسليم بأمرين، أولهما أن الثقافات تمر أحيانا بحالات تسمى بالظرف الثقافي،وذلك حين يعم نموذج يحظى بدافع من التقبل الكبير وتتشكل حوله حشود ترى أنه الحل المنتظر والموعود، وحينها يتبدى الفضاء وكأنه قد تم احتلاله صوتا وعددا وقوة من قبل البشر المتجاوبين مع الظرف والمنساقين معه،وغالبا يكونون من جيل شاب الذي يحلم بمستقبل أفضل وقد صار هذا عربيا زمن الستينات والوعد القومي اليساري، ثم تراجع هذا لتأتي الصحوة الإسلامية وتغطي الظرف الشبابي، وكلاهما ظرفان ثقافيان يعم صوتهما حتى لتظن أن لا صوت غيرهما، مع أن الأصوات الأخرى موجودة ولكنها أقل قدرة في مواجهة الظرف الذي من طبيعته أن يكون كاسحا .
ولكن لكل ظرف ثقافي حده الذي يبلغه بعد أن تتشبع الرسالة وتبلغ درجة من التشبع حتى لتنتكس على نفسها وتتفكك من داخلها لتحزبات فئوية يعادي بعضها بعضا أشد من معاداة مخالفيها،وفي العروبية جرت حروب بين العروبيين أنفسهم مثل وقت انفصال سوريا من الوحدة ومثل بعث العراق وبعث سوريا،وفي الصحوة جاءت الجامية والسرورية والإخوانية، وهي كلها صفات فئوية تصف الانقسام والتشقق بسبب أن الظرف الثقافي نفسه بدأت دورته الانحسارية .
وحينما تتراجع الموجة الظرفية تتغير خارطة الحالة الثقافية وتظهر الأصوات الخافتة سابقا والتي غطت عليها الموجة فيتبادر للناظر أن الفكر تحرر من الهيمنة الفئوية، مع أنه لم يتحرر حقيقة، وكل ما حدث هو أن الصوت الأعلى تراجع عن حدته السابقة وتفككك عن كتلته الأولى الصلبة وصار لهذا واحدا من كل وليس الكل بالكل، كما تبدى حين ظرفه المتسيد به .
هنا سنقول إن الثقافة صارت في حال من التعددية الثقافية، أي أن الأصوات كلها تحضر بصوت مسموع وإن بموجات متفاوتة،ولكن لن تجد صوتا واحدا يطغى ويعم ويحتل الفضاء كله،وسيكون الفضاء الثقافي ملونا بألوان الطيف كلها، وبعضها أسطع من بعض ولكنه لا يقوى على حجب غيره .
هذه هي الحال الواقعية للحياة البشرية، وهي المعنى العميق لمقولة التعددية الثقافية، أي أنها ليست وعدا بفردوس ثقافي ولكنها، فحسب، حال واقعية وكل صوت يجد له حيزا يستطيع عبره أن ينطق وأن يتنفس، وفي الستينات كان كل من يقف ضد العروبية يتحول تلقائيا إلى رجعي ممقوت إعلاميا وثقاف يا، ولكن هذا الرجعي عاد بعد انحسار الظرف وصار وطنيا مثله مثل أي صوت آخر . ولن يبرأ هذا من عيوبه،كما لن يحتل المكان الشاغر، بل هي كلها أمكنة ولكل صوت كرسي مأمون فيها، وتظل كل فئة بكامل سماتها، فيها من العيوب مثلما فيها من المزايا، والجامع للكل هو تعدد ثقافي يكشف كل ألوان الطيف ولكنه لا يملك قدرة سحرية على تصفية أي منها من شوائبه، كما لا يملك أي صوت أن يحتل الفضاء، لأن الظرف الثقافي الضروري لهذه الطبخة يكون قد مر بعد أن تشبعت شروطه حتى أثقلت عليه فانكسر معها وصار واحدا من كل ولم يعد الكل في الكل.