عبدالله الغذامي
(ما دمنا نملك ذاكرة فنحن نسقيون...أليس كذلك...!!!)، جاءني هذا التساؤل من مغرد يسمي نفسه (شكاك)، وهو تساؤل اتصل بنقاش نشأ على تويتر عقب سؤال وجهه لي بعض يطلبون شرحاً ملخصاً عن مفهوم النسقية، كما ظللت أطرحها من عام 2000 عام صدور كتابي النقد الثقافي، وكأن السائل يريد أن يتعرف على نفسه وهل هو نسقي أم لا... ورددت مشيراً إلى قصة أبي ذر الغفاري حين عير رجلاً بقوله: يا ابن السوداء! فنبهه الرسول عليه السلام بأدب نبوي روحاني قائلاً له: إنك امرؤ فيك جاهلية. وقد وظفت الحكاية هذه لأشرح أن كل واحد منا في داخله جاهلي صغير، وهذا الصغير يكبر فجأة وينتعش عند أول حالة امتحان استفزازي فتخرج له ذاكرته من مخزونها العنصري والطائفي والتعصبي مما هو غافل عنه وكان يظن نفسه متنوراً وصالحاً ونبيلاً، ولم يعهد نفسه من أهل الجاهليات، كما حدث للصحابي الجليل أبي ذر، وجاءه التنبيه الكريم، مما كان درساً تربوياً نبوياً راقياً. ولهذا نحتاج نحن إلى منبه متصل يطلق صافرته كلما تحرك الطفل النسقي الجاهلي من داخلنا، والنسق خفي كخفاء الفيروس وله مثل الفيروس أعراض تكشف أثره. ولا شك أن الشعر أحد مخازن النسق، ومثله النكتة، وكذا الخطاب مع الخصم، وكلها مناسبات تحرك المخبوء فينا وتظهر أوساخ الذاكرة ونسقياتها. وأخطر شيء هو النسق المضمر حيث يتقن الاختباء ومخادعة البصيرة حتى لتبدو لنفسك ديموقراطياً وإنسانياً، ويكمن في دخلك جاهلي نسقي ما. ومهمة الناقد الثقافي أن يترصد مخابئ النسقيات، وهي تلك الخطابات التي تغض الثقافة الطرف عنها حيث ترى الشعر مجازاً لا يناقش والنكتة لمجرد السلوى ولحظة الخصومة مجرد رد فعل، وترفع عنها شرط النقد، مع أنها هي السوق التجارية المفتوحة لتسويق النسقيات وتمريرها، وفي فن الكوميديا وفن الهجاء، يتم تدشين خطاب النسق، ويتستر تحت الجماليات مثل الكوليسترول حين يتستر تحت غطاء الحلوى والزبدة، ومن تحت حلاوته يكمن الخطر، والنسق ليس سوى فيروس ثقافي، وكل الثقافات البشرية تقع فيه وتتساهل فيه بما إنه تحايل لنفسه واختبأ تحت جلد بعض الخطابات المحببة للناس. وتمر النكتة مثلاً وفيها تحقير للمرأة، ولا أحد يعترض حتى لتمر على ألسنة النساء أنفسهن دون ملاحظة ناقدة، وهذا ما يجعل النسق ينمو ويتستر إلى أن يجد لحظة يقفز فيها ويحتل الفضاء البصري والسمعي للثقافة، كما كشفت لنا مواقع التواصل الاجتماعي التي أعلنت المستور وجعلت المصور عاماً وكونياً.