رقية الهويريني
ذكر الله تعالى في محكم التنزيل عدة مواضع أثنى فيها على العزلة؛ لما لها من فوائد تعود على النفس والذهن بالصفاء، لاسيما في حالة تزايد الضغوط النفسية والهموم، وكذلك في حالة الجدل وتفشي الفتن والخصومات، فتصون العزلة دين الإنسان وخلقه ونفسه بإبعادها عن الحساد أو المنتقصين لها أو الساخرين فيها أو المتطاولين عليها! ومن خلالها يتفرغ المرء للعبادة والتأمل والتفكير الإيجابي والعمل المثمر والبعد عن مواطن الغيبة والنميمة وسوء الظن وتجنب مقابلة الثقلاء والحمقى والسفهاء.
وقد اعتزل نبي الله إبراهيم عليه السلام قومه عندما خالفوه، وأظهروا له العداء. قال تعالى على لسان إبراهيم: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا}. وكذلك اعتزل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قومه قبل البعثة لينأى بنفسه عما هم فيه من باطل وضلال، ومن قبله نبي الله موسى لجأ إلى العزلة حين أصر قومه على مخالفة الحق. كما اعتزل أصحاب الكهف قومهم عندما خافوا على أنفسهم ودينهم، قال تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا}.
ويورد ابن الجوزي في كتابه (صيد الخاطر) ثناءً على العزلة فيقول: «ما أعرف نفعاً كالعزلة عن الخلق خصوصاً للعالم والزاهد فإنك لا تكاد ترى إلاّ شامتاً بنكبة أو حاسداً على نعمة، ومن يأخذ عليك غلطاتك، فيا للعزلة ما ألذها! سلمتُ من كدر غيبة وآفات تصنيع، وأحوال المداجاة، وتضييع الوقت).
وحينما تفتقد المجالس والاجتماعات البهجة وتجلب الكآبة وتساهم في نشر الفضول والثرثرة والإشاعات أو تتسبب بالتجريح، أو جر الإنسان لتفكير القطيع دون تمحيص؛ فإن العزلة أوجب، وللنفس أطيب! برغم أن النقاشات الثرية والحوارات النقية تكسب المرء المعرفة وتبادل الآراء وتلاقح العقول ومداولة التجارب. والحصيف يسعى لما يفيده، ويبتعد عما يجرحه لاسيما الشخص الحساس، فيفضل له الابتعاد النسبي عن الناس كيلا يتسببوا له بالألم. وكذلك العالم أو الباحث الذي يعد وقته ثميناً حيث لا يتمكن من إنهاء أبحاثه وإنجاز أطروحاته وترتيب أفكاره إلا في جو من العزلة والهدوء والسكون وبعيد عن التشويش والاضطراب! فتكون حينئذ العزلة مملكة للأفكار، وفضاء للعقول، ونزهة للأذهان، وفسحة للخواطر.