د. محمد عبدالله العوين
ربما لا يتبادر إلى ذاكرة بعض من يسمع مصطلح « الظاهرية « اسم مؤسس المذهب - إن صح أن نعده مذهبا خامساً - داود بن علي الظاهري البغدادي المعروف بالأصبهاني 201- 270هـ أو المنذر بن سعيد البلوطي الأندلسي 273- 355هـ قاضي قرطبة وإمام جامعها وخطيبها في عهد عبد الرحمن الناصر ؛ بل قد لا يلتفت الذهن إلا إلى أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد الظاهري 284- 456هـ وكأنه المؤسس الحقيقي لتيار الظاهرية ومؤصل رؤاها الفقهية والأيدلوجية وموقفها من المذاهب الأخرى كالمالكية والشافعية والحنبلية ؛ على الرغم من أنه لا يذهب بعيدا عن اتجاه أهل السنة والجماعة أو من يعرفون بالسلف إلا في مسائل معدودة لا تكاد تذكر ؛ فابن حزم يرى أنه لم يبتعد كثيرا عن اتجاه السلف؛ بل يأخذ بآرائهم في مسائل العقيدة ويختلف معهم في كونه يعمل بظاهر النص وإجماع الصحابة، بينما يرى أهل السنة والجماعة الأخذ بالتقليد والقياس والاجتهاد .
لكن شيخنا ابن عقيل لم يغمط مؤسس الظاهرية الأول حقه؛ فقد اعتز بجهده ورأى ألا يهمل ذكره فسمى أحد بيتيه باسمه «دارة دواد الظاهري» كما وقفت عليه ورأيته في حي الملز بالرياض، وسمى بيته الثاني بـ»دارة ابن حزم» في حي السويدي، وهو منزله الذي يسكن فيه ويستقبل زواره وأصدقاءه ويقيم فيه ندواته ويحرر في جانب منه مجلة «الدرعية « الفصلية التي يرأس تحريرها .
قلت في المقالة التي سبقت هذه إن ابن عقيل قد فتن برؤى ابن حزم الفقهية والكلامية والاجتماعية والأدبية، ووجد فيه العالم الذكي النابه المستقل في شخصيته والأديب البليغ المتميز بأسلوبه الخاص في الكتابة، ثم وجد في نتاجه الثر الغزير ما يغنيه ويمتعه ويجيب على تساؤلاته المبكرة في مرحلة قلقة من مراحل العمر تواقة إلى البحث عن منهج وطريق للوصول إلى رؤى فقهية مطمئنة تتكئ على أسس سليمة وتنظر إلى القضايا وفقا لروح النص من الكتاب والسنة؛ لا انقيادا لتباين القدرات البشرية في الاجتهاد والقياس والاحتذاء ، كما تبين ذلك في جل كتب ابن حزم في مختلف المعارف الفقهية والكلامية والتاريخية واللغوية مثل «المحلى» و»المجلى على المحلى» و»الفِصَل في الأهواء والملل والنحل» والأحكام في أصول الأحكام» و «ومراتب الإجماع» و «نقط العروس» ثم وجد في شخصية شيخه ابن حزم من سعة الأفق في معالجة القضايا الاجتماعية والنفسية ما أثار غريزته إلى الغوص في أعماق النفس من خلال كتابه الشهير «طوق الحمامة في الألفة والآلاف» ورسالته «في الأخلاق والسير ومداواة النفوس» وما كتبه في أدب الرحلة وتاريخ الملوك والممالك وتاريخ قرطبة والفتنة التي دهمتها.
وإن ذهب أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري إلى التوسع والشمولية حتى نيفت مؤلفاته على مائتي كتاب ما بين مطبوع ومخطوط في شتى العلوم والفنون والمعارف فإنه لم يذهب بعيدا عن شيخه ابن احزم الذي زادت مؤلفاته على أربع مائة كتاب لم يدع شاردة ولا واردة من علوم الدين أو الدنيا إلا كتب فيها ؛ وهو والحق مؤسس ثلاثة علوم لم يسبقه إليها أحد قبله: علم الأديان المقارن من خلال كتابه «الفِصَل» وفقه اللغة المقارن من خلال كتابه «الإحكام في أصول الأحكام» وفن السيرة الذاتية والمجتمعية من خلال رسالته في «الأخلاق والسير ومداواة النفوس» وكتابه الأثير «طوق الحمامة».
وعلى سبيل المثال لا الحصر كتب ابن عقيل الظاهري في الفلسفة كتابه «نظرية المعرفة» و «لن تلحد» و «حوار في جاردن سيتي» وفي التفسير والفقه «تفسير التفاسير» و «أحكام الديانة» و «تخريج بعض المسائل على مذهب الأصحاب» وكتب عن شيخه «ابن حزم خلال ألف عام» و«عبقرية ابن حزم» وكتب في أدب المقالة كتبا عدة لعل من أشهرها «هكذا علمني وورد زورث «وفي أدب السيرة الذاتية» شيء من التباريح» و«تباريح التباريح».
وهو لا يقف عند حد ولا يتهيب الخوض في غمار مسألة علمية أو يخشى الدخول في معركة عاصفة علمية أو أدبية؛ فقد اتفق مع شيخه ابن حزم وتشاكلا في نفسيتيهما المعتزة الواثقة المستقلة؛ فكأنهما خلقا من نفس واحدة وعاشا في عصر واحد.