د. محمد عبدالله العوين
انقضت خمس سنين وبضعة أشهر على اندلاع حريق الثورات في خمسة أقطار عربية؛ اشتعلت الثورة الشعبية في تونس ثم سرت كالنار في الهشيم ممتدة إلى مصر وسوريا وليبيا واليمن؛ فماذا جنت هذه البلدان من ثورات شعوبها؟ وهل حققت ما كانت تتطلع إليه تلك الشعوب الثائرة؟ وهل ثمة فارق كبير في حياة تلك الشعوب أمنيا واقتصاديا واجتماعيا بين ما قبل الثورة وما بعدها؛ أي بين فترة حكم الرؤساء السابقين ومن أتت بهم الثورات أو من لا زالت تناضل في سبيل إسقاطهم كما هو الشأن في سوريا واليمن؟
وقبل أن أعرض ما جنته الثورات على شعوبها أريد أن أزيل ما يتلجلج في أفئدة بعض القراء الكرام من ظنون أو شكوك قد تصور لهم أن الأوضاع العربية في تلك الأقطار الخمسة التي انتفضت على خير ما يرام، وأن أبناءها يعيشون في رغد ويتمتعون بالحريات المكفولة، وأنها لم تتذمر من انعدام الأمن أو العدالة أو نقص التنمية أو فرص العمل، وكأنها تعيش في دول اسكندفانية! لا. بل إن مواطني تلك البلدان ملحون في الشكوى من الفقر والفاقة والبطالة وسوء الإدارة وتفشي الأمراض الاجتماعية كالرشوة والمحسوبية والشللية والفساد الأخلاقي والتضخم والغلاء وسوء الدخل والنقص الكبير في الرعاية الطبية والاجتماعية والسكن، وغير ذلك.
تلك وجوه من معاناة المواطنين في تلك البلدان التي انتفضت؛ ولكن هل حقق لهم اندفاعهم إلى الثورة على تلك الأنظمة بعض ما كانوا يحلمون به من رغد العيش والعدالة وفرص العمل والتطوير للمرافق الخدمية وغيرها مما يرتفع بمستوى الحياة المدنية في التعليم والتطبيب والاقتصاد ونحو ذلك من شؤون وشجون الحياة اليومية للمواطن الكادح؟ !
لا يحتاج الأمر في المقارنة بين ما قبل الثورات وما بعدها؛ فالصورة في تلك البلدان أمامنا الآن جلية مكبرة واضحة لكل ذي لب، وليس معنى ذلك - مرة ثانية - أن حكام تلك الأقطار كانوا يسيرون سيرة عمر بن الخطاب في الحزم أو عمر بن عبد العزيز في العدالة؛ بل إن المراد الموازنة بين ما خسره الثائرون وما جنته الثورة عليهم من ويلات ومصائب.
يقول المثل الشعبي « إمسك قردك لا يجيك من هو أقرد منه «!
وهذا ما ينطبق بالتمام والكمال على ما حدث في سوريا واليمن وليبيا؛ فقد انتهت هذه الدول الثلاث إلى تدمير وتقسيم وتهجير وتشرد و فقر وحروب أهلية ونشأة لجماعات متطرفة وجدت البيئة المناسبة لتكونها، فهي لا تكبر وتنمو وتقوى ويتقاطر إليها الأنصار والتابعون إلا في البلدان المضطربة التي ضربتها الفوضى في الصميم وتنازع أهلها فيها الأمر وانقسموا إلى فئات وجماعات وأحزاب، كل جماعة تدعي أنها الأحق بالقيادة وأن ها التي اختارها الله لقيادة ذلك البلد، وحاربت هذه الجماعة تلك، حتى استقلت كل جماعة بولاية أو ناحية تحتكم بقوانينها المتطرفة وأحكامها الجاهلية؛ كما هو الشأن في سوريا وليبيا واليمن.
أما في تونس التي اندلعت منها الشرارة الأولى؛ فهاهي خمس مدن أو قرى تنتفض من جديد بعد أن يئست من الحكومات التي تشكلت بعد إسقاط نظام زين العابدين، وكأنها تعود إلى نقطة الصفر، وفي مصر التي استقرت بعد ثلاث سنوات مرة من الاضطرابات هاهي أصوات الإخوان ومن لف لفهم لا زالت تحلم باختطاف قيادة سفينة مصر؛ وكأنهم لم يتعظوا بما خسره المصريون بعد اندلاع الثورة، وما دمره المخربون والانتهازيون من منشآت وخدمات.
هذا ما جنته الثورات على الشعوب؛ دماء بريئة نازفة، ومدن مهدمة، وملايين مهجرة، ومئات الآلاف من الأرواح تزهق تحت البراميل أو القنابل أو الغازات أو في البحار أو في القفار والمتاهات والمنافي.
وإن لم يكن في مشاهد الموت والخراب والتشرد والفقر واليتم والانقسام والتفتيت وجماعات التكفير والتطرف عبرة وعظة؛ فلا عبرة بعد ذلك، وسيكرر المغفلون والمخدوعون والسذج مصاير الموت والهلاك والانتحار الجماعي لبلدانهم « فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور».