د.عبدالله مناع
على الرغم من «التهميش» و»الغياب الإعلامي» الدولي والعربي المقصود وغير المقصود.. الذي أخذت تعانيه القضية الفلسطينية بشكل عام، وحلمها في قيام (دولتها) المستقلة بشكل خاص.. تطبيقاً لقرار (حل الدولتين اللتين تعيشان جنباً إلى جنب في سلام).. الصادر عن مجلس الأمن الدولي عام 2002م..
.. الذي أوكلت مهمة تحقيقه لـ(اللجنة الرباعية).. فلم تتقدم خطوة واحدة في سبيل تحقيقه طوال الخمسة عشر عاماً الماضية.. بسبب رئاستها الأمريكية المغتصبة والمتآمرة، وسكرتاريتها البريطانية المتواطئة!؟
وعلى الرغم من ليل الجمعة الحزين - في الثالث عشر من شهر نوفمبر الماضي - الذي عاشته وبكته (باريس) النور والحرية.. وبكاه العالم من حولها، الذي لم يمض عليه أكثر من شهرين.. إلا أن (فرنسا) التاريخ والتمايز والاستقلالية لم تنس قرار جمعيتها التأسيسية في الاعتراف بـ(الدولة الفلسطينية)، الذي اتخذته في أعقاب اعتراف رئيس وزراء السويد (ستيفان لوبين) وحكومته، والبرلمان السويدي.. بـ(الدولة الفلسطينية)، الذي طلبت الحكومة الفرنسية إرجاءه إلى أن يأتي الوقت المناسب، الذي جاء بعد إعادة تشكيل اللجنة الرباعية في سبتمبر من عام 2014م.. بدخول (الاتحاد الأوروبي) إليها و(فرنسا) في مقدمته.. إلى جانب روسيا والولايات المتحدة والأمم المتحدة -بأمينها العام-، مضافاً إليهم مصر والمملكة والأردن.. ليعلن لوران فابيوس -وزير الخارجية الفرنسي- في أصعب الأوقات وأنسبها معاً.. أثناء احتفال الخارجية الفرنسية -الجمعة ما قبل الماضي بـ(تهنئة)- سفرائها إلى دول العالم.. بمقدم العام الميلادي الجديد (2016م): (أن فرنسا ستقوم في الأسابيع المقبلة بمساع للتحضير لمؤتمر دولي للسلام، يضم حول طرفي النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.. أبرز شركائهما من الأمريكيين والأوروبيين والعرب.. بهدف حماية حل الدولتين وإنجاحه)؟! ليضيف قائلاً: (لا يجب أن يُترك حل الدولتين.. ليتلاشى) وهو يبدي أسفه (لاستمرار الاستيطان الإسرائيلي).. مؤكداً أنه إذا فشلت هذه المبادرة (علينا تحمل مسؤوليتنا من خلال الاعتراف بدولة فلسطين)!! ليهلل الفلسطينيون وشرفاء وأحرار العالم من حولهم.. بهذا القرار الفرنسي المنصف والشجاع والمرتقب الذي أعطى ملمحاً (ديجولياً) - ربما.. لأولمرة - عن شخص وزير الخارجية الفرنسي (فابيوس).. وفكره ورؤيته السياسية العميقة، وتمايزه المعبر عن تمايز فرنسا عن السياسات الأمريكية المتآمرة والبريطانية المتواطئة.. بما يذكر بما قاله وفعله الزعيم الفرنسي المتفرد (شارل ديجول) في أعقاب محادثات (إيفيان) في مطلع الستينيات من القرن الماضي، التي انتهت بـ(استقلال) الجزائر في عهده: (الزمن وحده يصنع التاريخ، وإذا كان تاريخ فرنسا يمر في استقلال الجزائر، فليمر! في اتحادنا مع ألمانيا، فليمر! لم يكن مفرحاً الندم على استقلال الجزائر)!! وهو ما يمكن القياس عليه بالقول: (إذا كان تاريخ فرنسا العظيم يمر اليوم في الاعتراف بـ»الدولة الفلسطينية». فليمر)!! وقد مر.. بهذا الإعلن التاريخي المدوي عن (مؤتمر السلام) المنتظر.. وعن قرار فرنسا بـ(الاعتراف) بالدولة الفلسطينية إذا فشل.. في إطار تحملها لمسؤوليتها التاريخية..!؟
* * *
وإذا كان الفلسطينيون.. قد تعددت وتنوعت كلمات فرحهم وترحيبهم بـ(القرارين) الفرنسيين: عقد (المؤتمر) والاعتراف بـ(الدولة الفلسطينية) في حال فشله.. عبر العقلاء والراشدين وأصحاب التجارب النضالية الفلسطينية من أعضاء حكومة الوفاق الفلسطينية ومن خارجها.. سواء عبر المتحدث الرسمي باسمها (يوسف المحمود).. الذي قال: (إن موقف فرنسا تجاه عقد مؤتمر لحل الدولتين.. خطوة بالاتجاه الصحيح، وأي رفض لأي طرف لهذه المبادرة يعتبر رفضاً للعملية السياسية، ورفضاً لعملية السلام في المنطقة)، و(أن المبادرة الفرنسية تتويج لجهود الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وانتصار لدبلوماسية الصبر والمثابرة التي اعتمدتها حكومة الوفاق الفلسطينية)، أو عبر كبير المفاوضين الفلسطينيين الدكتور صائب عريقات الذي رحب بتصريحات وزير الخارجية الفرنسية لوران فابيوس.. قائلاً: (إنها تأتي في الوقت المناسب، إذ نرى أن منطقتنا تمر بواحدة من أكثر الفترات حرجاً في تاريخها).. بسبب هذا الإرهاب المعتوه الذي يضرب في كل اتجاه، دون ما هدف أو غاية، ويقوده هؤلاء المتأسلمون ممن يسمون أنفسهم بـ(داعش)، أو (القاعدة) أو (جيش النصرة).. أو حتى من (بوكو حرام) الأفريقية!! (إلا أننا نؤمن بضرورة نجاح الحرب ضد الإرهاب، وأن تكون له الغلبة.. لكن لا يمكن ضمان ذلك دون توازن.. لا يتحقق في المنطقة إلا بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية).
ومع أهمية هذه المواقف الفلسطينية المرحبة بالمبادرة الفرنسية: (مؤتمراً) و(اعترافاً).. إلا أنها لا تكفي وحدها، إذا لم يتم معها احتواء (دراويش) حماس، وهرطقاتهم التي مازالوا يضحكون بها على أنفسهم وعلى السذج من المسلمين.. التي ستكون أعظم هدية يقدمونها لـ(إسرائيل)، لترفض بها (المبادرة الفرنسية).. كقول أكبر دراويشهم (هنية) تعليقاً على المبادرة الفرنسية وكأنه يتحدث من (واق الواق): (إن الحركة ستواصل حفر الأنفاق في قطاع غزة، وأن مقاتلي كتائب عزالدين القسام مستعدون لأي مواجهة مقبلة مع إسرائيل).. وهي عنترية خادعة كاذبة لم تستعد وطناً ولم تحم شعباً!!
فقد جن جنون (إسرائيل).. وبدت مع لحظة إعلان المبادرة الفرنسية على لسان (فابيوس) وكأنه أصابها مس من الجنون فلم تعد تعرف ماذا تقول؟ أو ماذا تفعل..؟ وهل تكتفي بـ(التنديد) بفابيوس، ومحاولة إفشال مبادرته وإظهارها بأنها عبث لا طائل من ورائه، كما قال المتحدث الرسمي الإسرائيلي.. وبتلك الألفاظ، وذلك المحتوى الذي يجعل الفلسطينيين جميعاً.. يستلقون على ظهورهم من شدة الضحك عليها والسخرية بها: (إن تصريحات فابيوس بشأن الاعتراف بدولة فلسطينية ستشجع الفلسطينيين على عدم المشاركة في حل)!!
أم تهاجم (بان كي مون)، الذي اعتبرته محفزاً على إطلاق المبادرة الفرنسية.. بعد أن دخل على خط تزايد عدد سقوط القتلى من الفلسطينيين العزل إلا من السكاكين أمام نيران جنود الاحتلال.. والمستوطنين لمدن الضفة الغربية في جنين والخليل وبيت لحم.. من خلال رسالة بعث بها إلى مجلس الأمن يقول فيها بـ(إن الرد على الاحتلال طبيعة بشرية)!! وكان قد سبقها بـ(مقال) نشره في صحيفة الـ(نيويورك تايمز) قال فيه مع تصاعد القتلى الفلسطينيين بدم بارد: (إن الوقت حان كي يستوعب الإسرائيليون والفلسطينيون والمجتمع الدولي.. الدلائل على ما هو متوقع، فالوضع الراهن غير قابل للاستمرار)!! وهو يربط في المقال (بين إبقاء شعب تحت الاحتلال لأجل غير مسمى.. وتقويض الأمن والمستقبل في المنطقة).. ليتولى الرد عليه (نتنياهو) نفسه، وليرد (مون) عليه بصورة غير مباشرة قائلاً: (عندما تصدر مخاوف صادمة بشأن سياسات قصيرة النظر أو ضارة معنوياً عن كثير من المصادر بمن فيها أقرب أصدقاء إسرائيل: لا يمكن الاستمرار في مواصلة مهاجمة كل من يوجه انتقاداً حسن النية).. لتبقى (إسرائيل) في زمجرتها وغليانها وهياجها من المبادرة ومن (فابيوس) ومن (فرنسا).. ربما إلى قيام الساعة!!
* * *
إن عظمة المبادرة الفرنسية الحقيقية.. تكمن (فلسطينياً) وإن لم يتحدث الفلسطينيون، و(عربياً) وإن صمت العرب.. في خروج ملف السلام الإسرائيلي الفلسطيني من الخارجية الأمريكية.. ومن اليد الأمريكية والهيمنة الأمريكية عموماً، فـ(الولايات المتحدة) التي رفضت السلام الشامل مع كل العرب.. عبر مبادرة السلام العربية، التي رفضت قبول (دولة فلسطين) كـ(عضو مراقب) في الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي اعترضت على اعتراف السويد بـ(دولة فلسطين)، التي اعترضت -حتى- على رفع علم (دولة فلسطين) فوق صارية مبنى الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك!! لا يمكن بحال أن يتحقق على يديها (حل الدولتين اللتان تعيشان جنباً إلى جنب في سلام)!! ويكفي الولايات المتحدة الأمريكية.. أنها كانت (راعية سلام) لم يتحقق بين الفلسطينيين والإسرائيليين طيلة الخمسة والعشرين عاماً الماضية!! منذ لقائهما الأول في تسعينات القرن الماضي في العاصمة الأسبانية (مدريد)، الذي كان بحق.. بـ(طعم العلقم)!!
وقد آن الأوان.. لأن تتنحى عن ذلك (الدور) لغيرها.. لـ(فرنسا) بكل ثقلها الحضاري والثقافي والسياسي والإنساني الذي لا يختلف عليه اثنان.