د.عبدالله مناع
بين الموافقة السامية على إقامة معرض دولي -ثان- للكتاب في جدة ويوم افتتاحه (رسمياً) في الحادي عشر من ديسمبر الماضي، و(جماهيرياً) في الثاني عشر من ذات الشهر.. لم يكن هناك أكثر من ثمانية أشهر،
كان نصفها في الانشغال بموسمي (عمرة رمضان) و(حج) العام الماضي اللذين لهما الأولوية على غيرهما دون شك، وضاع ربعها -فيما بعد- في تحديد (المكان) الأنسب الذي سيقام فيه هذا المعرض المنتظر.. أهو في أرض معارض الغرفة التجارية الصناعية بجدة المحدودة المساحة، و(المزدحمة) الموقع على طريق المدينة الطالع وعند صعود (كوبري حراء) والهبوط منه؟ أم في (مدينة حجاج الجو)، التي أصبحت بعد انتقال (المطار) من جوارها منذ أكثر من ثلاثين عاماً.. في (قلب) مدينة جدة المزدحمة أصلاً وعلى مدار أيام العام بسكانها وزوارها وتجارتها ومركباتها؟ أم في أرض الاحتفالات في أبحر الجنوبية الأرحب مساحة.. إلا أنها (الأصعب) في إعدادها من الألف إلى الياء، لاستيعاب معرض للكتاب.. يتسع لهؤلاء الناشرين الكثر، كما أنها الأبعد في الوصول إليها عبر طريق الملك المختنق ازدحاماً خاصة للقادمين لـ(زيارة) المعرض من خارج جدة من مكة المكرمة والطائف أو من الليث والقنفذة؟
لقد كان اختيار (الموقع) الأرحب والأقل ازدحاماً والأسلس في الوصول إليه ومغادرته مشكلة يضاف إلى همها هم آخر وهو، من هي (الجهة) التي ستتولى الإنفاق على إعداد المكان أياً كانت هي، وتحمل نفقات من ستتم دعوتهم من الداخل والخارج من الناشرين والمثقفين العرب والأجانب لحضور هذه الفعالية الثقافية الكبرى المنتظرة، التي غابت عن مدينة جدة لأكثر من عشر سنوات، إلى جانب تحمل مكافآت المشاركين في فعالياته من الأدباء والشعراء والباحثين عموماً: أهي وزارة الثقافة والإعلام؟ أم هي الإمارة؟ أم هي المحافظة؟ أم هي غرفة جدة التجارية الصناعية من خلال رعاية تجارها وصناعها، من أصحاب المبادرات الخلابة والخلاقة التي لم تنسها لهم (جدة) والوطن بأسره؟
لقد تصدى مستشار خادم الحرمين الشريفين/ أمير منطقة مكة المكرمة.. الأمير خالد الفيصل لـ(المهمة) بحماسه وإصراره المعروفين.. عندما قام بتشكيل لجنة عليا تحت إشرافه برئاسة محافظ جدة الأمير مشعل بن ماجد، تضم في عضويتها مدراء فروع الوزارات في جدة مضافاً إليهم مدير فرع (الإعلام الداخلي) في وزارة الثقافة والإعلام -الأستاذ عابد اللحياني-، ورئيس اللجنة الثقافية الدكتور سعود كاتب الذي تم تعيينه لاحقاً من قبل وزارة الثقافة والإعلام.. باعتمادات مالية متواضعة، ليتولى مع مجموعة منتقاة من المثقفين صياغة فعاليات المعرض المصاحبة من الندوات والأمسيات الشعرية والقصصية، والإشراف على معارض التشكيليين والفوتوغرافيين والخط العربي، لتتولى هذه اللجنة العليا -كلٌ فيما يخصه- إعداد (الموقع) بعد أن تم التوافق على اختيار أرض الاحتفالات على شاطئ البحر بـ(أبحر الجنوبية)، لتكون مقراً له.. بإقامة مخيم ضخم تتسع مساحته لـ(عشرين ألفاً وستمائة متر مربع)، لتستوعب أعداد دور النشر المحلية والعربية والدولية التي قفزت في غمضة عين إلى أربعمائة وأربعين داراً.. كانت قابلة للزيادة إلى سبعمائة دار نشر، لولا أن سارع المسؤولون بإغلاق بوابة قبول المزيد منهم.. الذين أعلنوا عن رغبتهم في اللحاق بهذا المعرض الذي كانوا ينتظرونه، ليبقى تزويد ذلك المخيم الضخم بـ(الخدمات)، وما أكثرها وأصعب إنجازها في أسابيع.. إلى جانب استقبال كتب الناشرين ومنحها التصاريح اللازمة.. إلى جانب دعوة أصحاب الفنادق والمطاعم لافتتاح فروع لهم داخل أرض المعرض.. إلى عشرات عشرات التفاصيل.
لقد كان إنجاز كل ذلك في عشرة أسابيع.. أقرب ما يكون إلى المعجزة أو المستحيل، ولكن المعجزة.. تحققت، وغدا (المستحيل) ممكناً بفضل الجهود المشكورة التي بذلها عن طيب خاطر كل الذين عملوا في سبيل إقامة هذا المعرض دون أن يبخلوا بأوقاتهم، ودون أن يسألوا عن ريال إضافي واحد سواء أكانوا من موظفي الحكومة أو القطاع الخاص وشركاته ومؤسساته.. مقابل تلك الساعات المتواصلة من العمل وإلى منتصف الليل، فقد كان المقابل الذي يسعون إليه هو أن لا تأتي لحظة الافتتاح إلا وقد أصبح كل شيء على ما يرام في أرض المعرض.. وهو ما كان..!!
* * *
فقد بدأ الافتتاح الرسمي في موعده تماماً في الثامنة من مساء يوم الجمعة الحادي عشر من ديسمبر.. بحضور رجالي ونسائي محدود، متصل منفصل، وإن غلب عليه المشايخ والدبلوماسيون أكثر من الأدباء والمثقفين.. ربما لتعثر وصول بطاقات الدعوة لهم، أو لأسباب تفضيلية لا أعلمها.. إلا أن الجميع أخذوا مواقعهم في مواجهة السور الجنوبي لخيمة المعرض الكبيرة.. على المساحة المخصصة لحفل الافتتاح، لمتابعة وقائع الحفل الخطابي مباشرة.. وبـ(التزامن) على السور الذي يزيد طوله عن مائة متر بصورة غير مباشرة.. عبر النقل السينمائي على ذات السور، الذي لم يكن لتصميمه أدنى علاقة بـ(جدة) وعمارتها أو العمارة الحجازية بصفة عامة، فقد كان أقرب ما يكون إلى الأسوار الرومانية القديمة.. إلا أن الحضور تابعوا النقل السينمائي عليه لكلمات المتحدثين، وقصائدهم، ولـ(الفيلم التسجيلي) الذي تم بثه عليه، والذي كنت أتصور أنه سيقدم مشاهد لأجمل وأبرز معالم مناطق المملكة الثلاث عشرة المختلفة.. إلا أنه اكتفى بتقديم نبذة عن تاريخ صحيفة (أم القرى) أولى صحف المملكة في عهد الملك المؤسس عبدالعزيز -طيب الله ثراه-، لينتهي الحفل بصورة حضارية راقية في موعده تماماً.. وبعد ساعة من بدئه، ليُفتح الباب الرئيسي الوحيد للمعرض لراعي الحفل/ أمير المنطقة.. لزيارة المعرض من الداخل دون سواه من حضور حفل الافتتاح، وهو ما كان موضع دهشتهم، لينصرفوا بحثاً عن سياراتهم في (المواقف) التي أمنها المرور بكفاءة.. إلا أنه سها -فيما يبدو- أن يضع على مداخلها ومخارجها لوحات إرشادية مضاءة بأسمائها وأرقامها.. لتسهل الوصول إليها في ظل محدودية الإضاءة في كل المساحات المحيطة بـ(أرض المعرض)، وهو سهو امتد.. إلى طريق الملك وميادينه كلها المؤدية بعد ميدان (علوم البحار) إلى (موقع المعرض).. حيث خلت جميعها من أي لوحة إرشادية تساعد زائري المعرض في الوصول إليه.
* * *
على أي حال.. لم تكن تلك السلبية المرورية هي السلبية (اللوجستية) الوحيدة، فقد أخذت تظهر سلبيات لوجستية أخرى مع بدء استقبال المعرض لجماهير زائريه في اليوم الأول من أيامه -بعد الافتتاح-.. ربما كان أولها وجود مدخل واحد لـ(الرجال)، وهو ما ظهر أنه ليس كافياً.. أمام تدفق الزائرين الذين بلغ متوسطهم اليومي سبعون ألف زائر، على أن هذا المدخل الوحيد خلا من أي خدمات لأصحاب الاحتياجات الخاصة، فلم يكن هناك مدرج لتصعد عليه كراسيهم المتحركة، كما أن دورات المياه الخاصة بهم لم تكن بالعدد الكافي.. كما أنها لم تكن بالمستوى (المقبول) وليس الجيد أو الممتاز، يضاف إلى ذلك أن تفتيش الزائرين على المدخل وهو أمر ضروري ومرحب به من الجميع.. وقد أداه رجال الشرطة بأفضل صور السماحة والمرونة، بينما ظهر من بعدهم آخرون -لا أدري لأي جهة ينتمون- يمارسون حالة من (الأمارة الأباريقي) كما يقول مثلنا الشعبي الشائع على الداخلين بعد تخطيهم نقطة التفتيش في محاولة لإعادة تفتيش ما يحملونه من أوراق.. وكما حدث لي ولأحد الأصدقاء الذي ترافق معي لحضور مشاركتي في أول ندوات المعرض عن (تجارب بعض رواد الأدب والثقافة في المملكة العربية السعودية) حيث حمل عني -تلطفاً منه- مجموعة الأوراق التي سألقيها في الندوة.. ليعترضه أحدهم -بملابس مدنية-، وهو يسأله أن يعطيه مجموعة الأوراق التي يحملها لـ(تفتيشها) أو لـ(قراءتها).. لا أدري، فامتنع، ليهدده بمنعنا من الدخول إجمالاً، وحرصاً مني على أن لا يدركنا موعد الندوة.. فقد اقتربت منه، وقلت له: إن من حقك أن تفتش ما بين الأوراق.. فقد يكون فيها ما هو ممنوع، أما قراءتها فليس من حقك! فهدأت رغبته السلطوية.. وأفسح الطريق أمامنا لنلحق بمكان الندوة الذي لم نكن لنعرفه.
وقد شكا بعض الناشرين -على مسمع مني- من التوزيع الطولي للممرات في المعرض، وأنه حرم بعض دور النشر من وصول الزائرين إلى مواقعها.. وأنه لو كان عرضياً لكان أفضل لهم.. فضحكت باعتباره شأناً هندسياً وليس شأناً ثقافياً أو أدبياً لأدلي بدلوي فيه، إلا أنني أيدت الناشرين.. الذين كانوا يتذمرون من وجود المطاعم والمقاهي في ركن واحد قصي من أركان تلك الخيمة المهولة في اتساعها، وأن على من يريد أن يحتسي فنجاناً من الشاي أو القهوة.. أن يمشي على قدميه ربما لربع أو لنصف ساعة حتى يصل إلى المقهى أو المطعم.
* * *
ونظراً لحالة الانضباط التي أحكمتها (الإمارة) و(المحافظة) من بعد.. فقد كاد يخلو معرض جدة من تلك (المشاحنات) والمشادات التي عرفها معرض الرياض الدولي.. وكانت حديث المجالس بامتداد سنواته تقريباً بين من يسمون أنفسهم بـ(المحتسبين) والمثقفين والمثقفات.. حتى أصبحت وكأنها جزء من طقس المناسبات الثقافية العام في بلادنا.. خاصة تلك التي تشارك فيها المرأة.. إلا أن المحتسبين أبوا أن يحسب عليهم هذا الغياب!! فكان ظهورهم غير المرغوب فيه لمرتين وفي أمسيتين شعريتين: الأولى.. كانت في الأمسية التي شاركت فيها الشاعرة المعروفة الأستاذة الدكتورة أشجان هندي.. ليس اعتراضاً على نص من النصوص التي ألقتها، ولكن اعتراضاً على ظهورها.. على منصة الندوة لتلقي قصائدها وهي غير منقبة!! لينفعل أحدهم.. ويقف مستنكراً وجودها على تلك الصورة.. وهو يصيح في حضور الأمسية: أيرضيكم هذا؟
فكان أن أسكته رد الحضور عليه عندما قالوا وبما يشبه الإجماع: نعم يرضينا..!
ليحتوي الدكتور سعود الكاتب بدبلوماسيته الموقف بعد ذلك وتمضي الأمسية بسلام، وتمضي الشاعرة في استكمال إنشاد قصائدها.
أما المناسبة الثانية لظهورهم فقد كانت مع الأمسية التي لم يقدر لي حضورها بكل أسف، والتي ألقت فيها الأستاذة الدكتورة هند المطيري - أستاذ الأدب العربي.. بقسم البنات بجامعة الملك سعود - قصيدتها (ويح القبيلة)، التي استمعت إليها عبر فيديو الجوال، فقلت لمن أسمعني إياها: ما أحوج الوطن إلى شعر كهذا، وإلى شاعرة كالدكتورة المطيري.. إلا أن أحدهم قام معترضاً على ما جاء في نص القصيدة، إلا أنه طُلب منه أن يدلي بوجهة نظره بعد انتهاء الدكتورة المطيري من إلقاء قصائدها، وقد كان.
لينتهي المعرض بعد أيامه الأحد عشر.. وفي ذاكرة حضوره، وذاكرة (الوطن) بصفة عامة: قصة الشاعرتين والأزمتين وقصة ذلك النجاح، الذي فاق توقعات المتفائلين لمعرض جدة الدولي للكتاب.. وكل عام والرياض بخير.. وجدة بخير.. ومعرضاهما للكتاب بخير.