د.عبدالله مناع
عندما وصفت الصحافة اللبنانية قبل أيام.. نبأ خروج (سمير جعجع) - رئيس حزب القوات اللبنانية - من سباق الرئاسة اللبنانية، وهو المدعوم من قبل أكبر الكتل اللبنانية في (مجلس النواب) - وهي كتلة (المستقبل)
أو الرابع عشر من آذار - حتى ليمكن القول بأنه كان وكأنه مرشحها لـ(قصر بعبدا).. بأنه (زلزال) سياسي قلب الموازين والمعادلات!! خاصة وأنه اقترن في ذات اللحظة.. بـ(اتفاق) مصلحي مع العماد ميشيل عون - مرشح كتلة الثامن من آذار - التي تضم حزبه (التيار الوطني الحر) و(حزب الله) - والمقابلة والمضادة لكتلة الرابع عشر من آذار.. في كل شيء، وأن (عون) بهذا الاتفاق والدعم من خصمه اللدود (جعجع) وكتلته النيابية بنوابها الثمانية.. قد أصبح قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى قصر (بعبدا).. كنت أجد نفسي مع أولئك الذين لم يروا فيما حدث (زلزالاً).. بل (مخرجاً) من (ورطة) هذه الانتخابات الرئاسية، التي تعثرت بسبب مرشحيها (عون) و(جعجع).. وليس لأي سبب آخر منذ دورتها الأولى في الثالث والعشرين من شهر إبريل من عام 2014م إلى يومنا هذا.. دون أن تسفر محاولات المجلس النيابي المتكررة طوال الواحد والعشرين شهراً الماضية عن فوز أي من المرشحين بـ(الثمانية والستين) صوتاً من أصوات النواب البالغ عددهم مائة وثمانية وعشرون نائباً.. والمؤهِلة - دستورياً - لخوض دورة (الإعادة)، التي يكفي الفوز فيها بـ(الأغلبية البسيطة).. أي بواحد وخمسين في المائة من إجمالي أصوات النواب ليكون الرئيس الخلف للرئيس (ميشيل سليمان)، الذي رفض فكرة التمديد أو (التجديد) البرلماني له، وآثر مغادرة (بعبدا).. بعد إكمال دورته الرئاسية الأولى بسنواتها الست، مأسوف عليه.. هو ورئيس وزرائه (نجيب ميقاتي)، الذي جاء من خارج التشكيلة السنية المعروفة - التي كانت تتناوب لعقود (رئاسة الحكومة) اللبنانية من أسر آل كرامي واليافي والسلام - كـ(الدكتور سليم الحص) و(شفيق الوزان) و(رفيق الحريري)، إذ يكفيهما إنجازاً ومجداً أنهما جنّبا (لبنان) الجميل.. طوال سنواتهما الست من الوقوع في المحرقة السورية، التي لم يشهد العرب لها مثيلاً.. في أشد سنوات الطغيان الإسرائيلي عربدة في المنطقة..!
* * *
لقد كانت مشكلتا الرجلين (عون) و(جعجع).. في خلافهما قبل اتفاقهما.. عندما جرؤوا على ترشيح نفسيهما لسدة (الرئاسة اللبنانية) في بعبدا، أنهما اعتمدا على ضعف الذاكرة اللبنانية ومبدأ (اللي فات.. مات)، وأن عقد الثمانينات التسعينات قد وليا، وذهبا بخيرهما وشرهما وصدماتهما وأحزانهما.. دون رجعة، ليفاجأ بأن الذاكرة اللبنانية الوطنية لم تضعف ولم تذبل، وأنها مازالت حديدية.. تذكر وتتذكر للأول - عون -، أنه كان قائد الجيش اللبناني في سنوات الحرب الأهلية اللبنانية، وأنه استخدم الجيش اللبناني لقتال الفلسطينيين والحركة الوطنية اللبنانية المؤيدة لهم.. وليس لقتال الإسرائيليين، بل وقصف به القصر الرئاسي في (بعبدا) الذي يسعى إلى بلوغه اليوم!! إلى أن ضاق به اللبنانيون أنفسهم وطاردوه وحاصروه.. فلجأ إلى السفارة الفرنسية في بيروت التي أمَّنت له خروجاً - أو هروباً - آمناً إلى (باريس).. ليقيم فيها هانئاً لأكثر من عشر سنوات، ثم ليعود بعدها وينشئ حزبه (الإصلاح والتغيير).. بعد (اتفاق الطائف) الذي أجاز تحويل (ميليشيات) الحرب الأهلية اللبنانية التي كانت تتحاور بالمدافع والكلاشينكوف.. إلى (أحزاب) سياسية تتحاور بالكلمة والرأي، والذي سرعان ما تحالف (مصلحياً) مع ثاني القوى الإسلامية في لبنان (حزب الله)، ليحسِّن من صورته إسلامياً، وليحصل على دعمه السياسي، وأصوات نوابه الثلاثة عشر.. الذين يمثلونه في (المجلس النيابي)، الذي يتولى أعضاؤه انتخاب رئيس الجمهورية انتخاباً (برلمانياً).. حيث حلمه القديم المتجدد..!! ليدخل معركة ترشيح نفسه.. فيجد أمامه خصمه الكتائبي القديم: (جعجع).. صاحب الإنجازات الدموية الأعظم، التي كان أبرزها اغتيال (طوني فرنجية) وعائلته، ورئيس الوزراء العروبي اللبناني الأشهر (رشيد كرامي)، والتي وضعته في السجن المؤبد.. لولا الرئيس (إلياس هراوي) الذي أطلق سراحه بـ(عفو) من المجلس النيابي بعد عشر سنوات، ليفاجأ أعضاؤه بعد تشكيله الجديد مع خروج الجيش السوري من لبنان.. بـ(جعجع) وقد أصبح عضواً بينهم (!!) بل ويتقدم بترشيح نفسه لـ(الرئاسة اللبنانية).. لا خدمة للوطن و(الأمة)، ولا طمعاً في الرئاسة لتبييض صفحته السوداء.. ولكن لـ(قطع) الطريق على (عون) وقوى الثامن من آذار التي أصبح مرشحها.. لصالح قوى الرابع عشر من آذار، وخدمة له، ولرئيسه (سعد الحريري).. وذهب المعز الذي يملكه، ثم لينقلب عليه فجأة في التاسع عشر منهذا الشهر بصورة (أكروباتية) لم تتكشف دوافعها بعد.. وينضم إلى العماد عون وقوى الثامن من آذار.. بل ويبشر بـ(رئاسة) العماد ميشيل عون (القادمة..!!) للبنان، وكأنه المتحدث الرسمي باسم مجلس النواب اللبناني.. أو رئيسه السياسي العقلاني الحاذق: نبيه بري، وهو أمر لم يتحقق طوال شهور (خلافهما) الماضية التي قاربت العامين.. وأحسب أنه لن يتحقق في (اتفاقهما) الذي لم تمض عليه سوى أسابيع..!!
فـ(رئاسة) لبنان، المتوهج معرفة وثقافة حضارة وفناً.. بلد الريحاني وجبران ونعيمة وعبود والخال والتويني، الذي قال شاعرهم عنه:
(لي صخرة.. عُلقت في النجم أسكنها
طارت بها الكتب.. قالت: تلك لبنان)
.. لا يمكن أن تُترك لهملة الرجال، والمتاجرين بدمائه ومآسيه، والمتربحين من ولاءاتهم المتعددة، ليقرروا مصيرها ومنتهاها.. بعد أن عرف تاريخها الحافل والطويل تلك القامات من الرجال الأفذاذ.. من أمثال رجال استقلالها: (بشارة الخوري) و(رياض الصلح).. ورجال استمرارها من أمثال (فؤاد شهاب) و(رشيد كرامي).. ورجال صمودها من أمثال (إلياس سركيس) و(سليم الحص)، وأصبحت في قلب التاريخ العربي وفي بؤرة اهتماماته منذ أن غادرها (شمعون) بـ(استسلامه) ومارونيته، وجاءها (شهاب) بـ(وطنيته) وعروبته.. حتى غدا شأن انتخاب الرئيس اللبناني شأناً عربياً بأكثر مما هو شأن لبناني..!!
أما اليوم.. وقد غدا صوت المذهبية الظالم والكريه يصم الآذان العربية والإسلامية.. فإن انتخاب الرئيس لابد وأن يخضع لـ(معايير) الذهب والألماس، ولأشد المعايير السياسية دقة وفطنة وحصافة.. حفاظاً على حاضر ومستقبل لبنان العزيز على العرب جميعاً.
* * *
وخيراً لـ(المجلس النيابي) اللبناني.. أن يمد في حبال انتظاره لعام أو أقل أو أكثر حتى تهدأ براكين المذهبية.. من أن يتعجل ويقع في انتخاب مرشح أحد كتلتي آذار / مارس، فيفقد في خمسة أسابيع أو خمسة أشهر.. ما كسبه في خمس سنوات..!
فـ(لبنان) الصغير مساحة، والعظيم تأثيراً وقيمة.. يحتاج إلى رئاسة وطنية خالصة على مستواه.. رئاسة لا تعنيها قوى الرابع عشر من آذار ولا تخيفها قوى الثامن منه..!!