د.فوزية أبو خالد
في مسألة التعدي الإيراني على حرمة المنطقة ومحاولاتها الأخيرة لارتكاب تعدٍ صريح على المملكة يعمل على أبعد من تجاوزاتها التهويشية السنوية في مواسم الحج وأقرب من تحرشاتها بالاستقرار السعودي والعربي عبر جرائم وكالاتها الميليشية في إشعال الحروب بسوريا ولبنان واليمن والعراق
... لا تلزمنا القراءات الهجائية ولا ردات الفعل البكائية على تلك الأفعال الباغية للنظام الإيراني. وفي هذا أنه قد يكون المجدي أكثر من مواقف العويل أو الإهاجة هو تفكيك الطبيعة الثيوقراطية للنظام الإيراني القائمة على الأحادية المذهبية والفقهية والعرقية على الرغم من تنوع النسيج الاجتماعي والمرجعي الداخلي لشعب إيران وتنوع محيطها الإقليمي.
ففي المسألة الإيرانية الموضوع أبعد من الصبر على جار سفيه أو تطبيق لقول «داروا سفاهاءكم بثلثي أموالكم». بل إن المسألة ليست مسألة نظام يتعامل مع قواه الداخلية وفي علاقاته الخارجية بروح ثورية تجمع بين النزق وبين توق التغيير وإن على غير دربة أو تجربة. إنما هي مسألة نظام طائفي مغلق يقوم داخليًا على أبوية دينية تجمع بين سلطة القمع وسلطة الدولة التأليهية أو فوقية الفقيه، ويعمل خارجيًا وتحديدًا في دائرته الإقليمية وفق نزعة استحواذية تقوم على عمادين هما، رؤية تتأسس على العداء للمختلف المذهبي ومنهج تصفوي في حق الهوية أو الهويات المغايرة مما يصعب معه وفيه العمل وفق وسيلة نزيهية نحو غاية تفتقد النبل في عملها القائم على منظومة من علاقات الجور بجمهورها وجوارها معًا.
والمفارقة أن شريحة لا بأس بها من مثقفي العرب والغرب معًا ومنهم المفكر النقدي الفرنسي ميشيل فوكو ممن يستمدون مواقفهم السياسية من علاقة رومانسية مع الثورة بمفهومها التحرري المطلق قد كذبوا مواقفهم الفكرية المبدأية في رؤيتهم أو في تعاطيهم مع إيران الخمينية. ولم يقتصر ذلك عند البعض على أوج الزخم الشعبي المغري إبان المواجهات للإطاحة بنظام الشاه في إيران عام 79م، بل استمر دخان الالتباس عند رهط منهم حتى بعد أن انحسر ذلك المد الشعبي الثوري وبدأ يظهر الوجه القمعي الاستحواذي العاري لسلطة الملالي. لدرجة أن بعض المثقفين والكتاب قد رأى وأنا منهم في حرب السنوات الثماني بين العراق وإيران بالثمانينيات الميلادية موقفًا انتهازيًا من نظام البعث الصدامي في المزايدة على «نظام ثوري» متبرعم. إلا أن ذلك النظام الطائفي المغلق الذي كانت تظنه الأخيلة الرومانسية لليسار العالمي والعربي منه وقتها، ثورة طليعية في المنطقة لم يتورع عن تجريد برعمة الثورة المتفتحة للتو من عمقها الشعبي وتحويلها إلى شوكة شريرة بالانقلاب على كل مضامين شعاراتها الثورية وارتكاب تصفيات جسدية ومعنوية تنكيلية منظمة في حق كل من يخالفه عقيدته السياسية الخمائية أو الخمينية، من أساتذة الجامعات إلى تلاميذ المدارس ومن الشعراء والكتاب عمومًا إلى الحالمين أو المتبرأين من شرعته الدموية بعد أن كشر عن أنيابه ونفض عن نفسه مسحة الثورية التي كان يتستر بها. وما المواقف الدفاعية عن حقوق الإنسان في إيران التي تبنتها وأعلنتها المحامية شيرين عبادي الحائزة على جائزة نوبل للسلام إلا تعبير عمّا اجتاح معاش الإيرانيين اليومي واعتلج في صدورهم من فجيعة اختطاف حلمهم الثوري وما طال أبسط الحقوق من انتهاكات تحت الإشراف المباشر لألوية النظام و»حرسه الثوري «. فمن قطع حناجر أساتذة جامعيين إلى لي الحبال الشوكية لجيل كامل من الشباب الجامعي وسواه على الهوية الفكرية أو الميول الأدبية، ومن وادٍ كل مكتسبات إيران العصرية والعلمية ما قبل الثورة إلى طمس ملامح النساء وتحويل نصف الشعب إلى كتل من السواد التناسخي. ولذا فقد رأى النقد النسوي والسياسي في عمل آذار نفيسي الأدبي «أن تقرأ لوليتا في طهران» فجوة أو فجة ضوء تكشف تلك الظلمة الحالكة الخاثرة الكثيفة لكهوف الانعزالية الموحشة التي أدخل النظام الخميني مختلف أطياف الشعب الإيراني إليها، وذلك باعتبار العمل سيرة ذاتية شجاعلأستاذة جامعية جسور وثلة من طالباتها المغامرات في الشغف المعرفي وإن تزيا الكتاب من الناحية الأدبية بزي السرد الروائي. وبمثل هذه الرؤية النقدية يمكن أن نقرأ ما قالته النفيسي نفسها عن ذلك الإنتاج الأدبي الذي ترجم إلى اثنتين وثلاثين لغة، فبقدر ما رأت فيه مرأة للمقاومة بابسط أشكالها التي تجلت هنا في لقاء دوري لقراءة كتاب فقد اقتطعت به صورة مصغرة لقمعية ذلك النظام حيث تقول: «لقد أنشأنا صفنا الخاص، في محاولة للهرب من تفرّس عيني رقيب أعمى، في غرفة المعيشة تلك، استطعنا أن نكتشف من جديد بأننا أيضًا بشر يمكن أن نحيا ونتنفس. وبغض النظر عمّا آلت إليه الدولة من قمع، وأيًا ما كانت وسائلهم لترهيبنا وإرعابنا، فقد كنا.... نحاول أن ننأى بأنفسنا بحثًا عن جيوب صغيرة للحرية».
وبهذه الرؤية النقدية أيضًا أرى أنه يتعين اليوم بل قبل اليوم بكثير على كل القوى العاشقة للحرية والحق وتحكيم الضميرأن تعيد النظر في موقفها من ثورات انتحلت الثورات وسرقت الزخم الشعبي واحلت محلها أنظمة لا تملك بتركيبتها السلطوية وبطبيعتها الدينية وبعقيدتها الانعزالية الطائفية الضيقة وبسلوكها التصفوي وبأذرعتها الميليشية والاستخباراتية إلا أن تكون إعادة إنتاج مركز للديكتاتورية بصور أعتى عمّا سبقها.. ويبدو لي أن إحدى سبل إعادة النظر هي أن نحرر النقد من الهجاء المتورط في آنية الحدث السياسي المتغافل عن طبيعة التركيبة السياسية للدولة الإيرانية وسلطتها المرجعية. وهذا يعني العمل في نفس الوقت على تحرير النقد من ذلك المضمون التأجيجي على أساس مذهبي أو طائفي الذي تتبناه السلطة الروحية والسياسية معًا في إيران الذي نجحت في نقل عدواه إلى كثير من المنابر الإعلامية التي تسقط في فخه بدعوى أنها تريد الانتقام من إيران بنفس السلاح الإيراني الطائفي، ويجري ذلك بوعي أو من دون وعي لخطورة هذا الإنجرار. لذا فنقد النقد في المسألة الإيرانية وهو تقريبًا موضوع هذا المقال جزء حيوي من استراتيجية المواجهة.
ولتوضيح ضرورة تطوير رؤيتنا النقدية للموقف من إيران أورد مثالاً شائعًا. فقد كان هناك الكثير من الناس بما فيهم عدد من المثقفين وكتاب الرأي ممن يرفض تصديق مقولة خطر «الهلال الشيعي» التي كانت تتردد إعلاميًا قبل عقد ونصف من الزمن، ولو على سبيل الاحتمال لعدة أسباب يتعلق بعضها بالتعويل على أواصر الجوار أو بالرؤى السياسية لأصحابها إلا أن منها ما يتعلق مباشرة وعلى وجه التحديد بالإطار المقارن الخاطئ الذي كان يورد فيه التنبيه للخطر من حيث المقارنة بين خطر النجمة الصهيونية والهلال الشيعي بما تنطوي عليه تلك المقارنة من خلط في المفاهيم بين الصهيونية بمفهومها العدواني الاستعماري وبين المذهب الشيعي كمذهب تعايشي يشكل جزءًا من فسيفساء تكوين النسيج الإقليمي الطبيعي للمنطقة. هذا بينما كان الأحرى تحرير النظر من ذلك التصنيف الطائفي لرؤية الخطر على حقيقته المرتبطة بطبيعة النظام السكتيرانية الأثوقراطية وليس بمذهب له تاريخ من التعايش السلمي بالمنطقة ما قبل ولادة شيء اسمه نظام الدولة الخمينية. وهذا يمضي على ذلك النقد الذي يخدم النظام الإيراني في تأجيج الفرقة بين أبناء الشعب الواحد بالمنطقة العربية ما لم يحرر النقد من التورط في نفس الفخ الطائفي الذي تحاول إيران التسلل عبره لفرض هيمنتها الإقليمية على المنطقة. ولهذا فمن الضروري واعتبره من الذكاء السياسي أن تمضي المملكة على المستوى الرسمي في العمل على استصدار قرار من مجلس الأمن يسمى التحرش والاعتداءات الإيرانية في حق المملكة بمسمياتها السياسية البواح ولهذا أيضًا فإن المبادرة لإنشاء مجلس التعاون الإستراتيجي بين السعودية وتركيا يجب ألا ينظر إليها ولا يحصر فهمها على أنها تحالف سني سني مقابل التكتل الشيعي الذي تحاول أن تخلقه إيران كدولة ثيوقراطية سكتيرانية. فتركيا هي دولة وطنية علمانية وإن شكل المذهب السني غالبية نسيجها الاجتماعي. وهي دولة لم يصل فيها الحزب الحاكم بغض النظر عن خلفيته السياسية الدينية إلا عبر تكوينها العلماني الديموقراطي الوطني. ولهذا فإن تحالف التعاون السعودي التركي الجديد يقرأ على أنه توافق سياسي إقليمي على قواسم المصالح الإقليمية المشتركة. ولهذا أيضًا ففي سياق هذه المرحلة التاريخية وتحولاتها الجارفة وما ينتج عنها من اختلال حتى على مستوى التفكير الرشيد، نحن بحاجة حقًا إلى مثل هذا الفهم التحرري الذي يعتق المفاهيم وبالتالي الرؤية الحليلية وربما السلوك السياسي من الوقوع في أتون الحريق الذي تعمل إيران على إشعاله بفتيل نيران الطائفية خاصة بعد أن نزع من يدها فتيل السلاح النووي.