د.فوزية أبو خالد
في هذه المرحلة الحبلى بمختلف الامتحانات المحلية والعربية, الإقليمية والعالمية، يلوح الغد غامضاً كغابة من الأسئلة، تربك العلاقات الطبيعية مع الآتي، وتشكك في العلاقة مع الماضي، وتقض مضجع العلاقة بالحاضر. في هذه المرحلة المشحونة بالتحولات تتعدد الاحتمالات، وتراوغ بين الفاتح والغامق،
بما يجعل الاحتفاء بقامة وطنية، شكل تاريخها مرحلة فتية من عمر البلاد، شكلاً من أشكال الطيش للتحالف مع المستقبل.
ولهذا فقد كانت الكتابة لمشاركة النادي الأدبي بالمنطقة الشرقية في الاحتفاء بتجربة الشاعر علي الدميني امتحاناً من الامتحانات الصعبة للاشتباك مع هذا النوع النادر من العدل المتأخر أو الوداع المبكِّر لقامة ما زالت طويلة الأمل متوردة بالعطاء من جيل التجديد الشعري.
وهنا أحاول أن أتمالك رباطة جأشي؛ فأهدئ روعي بأنني أكتب لعلي الدميني، ولا أكتب عنه، وأن الموقف على خطورته لا ينبغي له إلا المزيد من تدريبات اللياقة بقصيدة شرسة، أو بوقفة شرف للإيغال في تحدي الحتوف بحب الحياة أو أوهامه الفارهة.
شعلة الشعر قرب الحقول 1979 - 1982
عندما شغفت بشعر علي الدميني لأول مرة لم يكن قد صدر ديوانه الأول «رياح المواقع»، ولم يكن عنده من البراعم إلا طفلته نجلاء، ولم تكن وظيفته بأرامكو قد تخلت عنه، لكنه كان يكتب شعراً مختلفاً، يقطر بأبجدية مجدولة من جزالة المعلقات وليونة قصيدة التفعيلة.
وعندما اقتربت من عالمه وطرحه التقدمي وقتها، ومحاولته التقارب مع حركة الإبداع المعاصر في العالم العربي, لم يكن علي الدميني وحده؛ فهو من اللحظات الأولى لظهور نجمه الحيي كاختراقات للجّة الجدران لم يكن مفرداً على تفرّده.
كان الوطن العربي في المنتصف الثاني من السبعينيات يبدو للحالمين أنه لا يزال قادراً، رغم تراجع القومية والناصرية والبعثية، أو بسبب ذلك، على التهيؤ لأعراس وطنية مشتهاة في تسجيل اسم الوطن بغير وسم التخلف.
فما كان من علي الدميني وكوكبة من شباب المنطقة الشرقية الطالعين من معاقل أرض النفط بأسئلتها الجديدة، وبخلفيتها الزراعية، وما تبقى من حرقة الغوص, والقادمين إليها من أفول المراعي وغروب البساتين، إلا أن أقدموا على محاولة شق الغبار وفتح النوافذ على العالم، فتجرؤوا عبر مطبوعة ثقافية لملحق جريدة اليوم، سموها «المربد» تيمماً بدلالات المربد الوجدانية والتاريخية على اجتراح الخروج على المعروف من صيغ الإبداع التقليدي، ودقّ بوابات المستقبل لكتابة أشكال ومضامين جديدة من الإبداع الأدبي والشعري ومن الفن التشكيلي؛ لذلك فمن الصعب الكتابة عن علي الدميني دون الكتابة عن سيرتي الذاتية شخصياً في تيارها الجماعي والمتعدد معاً، وعن السيرة المشتركة التي تقاسم ملح جراحها وأرغفة غواياتها مع محمد العلي وخالد النزهة وجبير المليحان وعبدالعزيز مشري وفوزية العيوني وبديعة كشغري ومنيرة الموصلي وأحمد بوقري ومحمد الدميني وأبوسلمى ومحمد عبيد الحربي ومنيرة (زوجته)، وغيرهم الكثيرون. وأكثر من ذلك؛ فيمكنني التدوين بثقة أنه من المستحيل الكتابة عن علي الدميني دون الكتابة عن جبهة طليعية عريضة من شباب مختلف الشرائح الاجتماعية، ومختلف مناطقها ومشاربها، مما تشجّر بزهو وكبوات أشواك الإبداع وأكفّ الصبار فيما كانت تحاول أن تكتب مكاناً للوطن على طريق المستقبل الشعري والنثري والسردي والفكري والسياسي، ولا تزال.
وقفة على المشارف 2003
كنت قد كتبت في كلمة الغلاف الأخير لكتاب الشاعر علي الدميني «أيام في القاهرة.. وليالٍ أخرى» أنني لا أدري حين تسوّل لي نفسي دخول أتون الكتابة عن علي الدميني عن أي علي بن صالحة وغرم الله الدميني تراني أكتب؟؟! عن أي علي الدميني أستطيع أن أكتب؟؟! وعن أي علي الدميني أستطيع ألا أكتب!!
هل أكتب عن علي الوطني الملتزم بالمعنى الفكري كرواسي الجبال التي تشكّل وقفتها رمزاً لشموخ الأوطان، أو أكتب عن علي الدميني الشاعر المتمرد شكلاً ومضموناً كرياح البحر التي لا تستطيع تحمّل ملل الاستقرار؟؟ هل أكتب عن علي الدميني الطالع من قمم السروات, المتسلل لقاع الحقول، أو أكتب عن علي الدميني الخارج من أعماق الينابيع السادرة في غابات الغيوم؟
هل أكتب عن علي الدميني الذي يصير طبق الأصل شبه أبي حين يلعب مع صغيرته سوسن، وحين يغني مع ابنه خالد «كده كده ياتريلا»، وحين «يدوزن» مع «أبوسعود» ابنه عادل لحن «أحن إلى خبز أمي»؟
أو لا يمكن أن أكتب دون أن أكتب عن علي الدميني الذي يقطع تذكرة ويأتي مع المشرقة فوزية العيوني صديقتي وزوجته مرة ليشاركاني فجيعة رحيل أمي، ومرات ومرات قبلها وبعدها لمجرد الوفاء والذود عني، ومرة ليحضرا زفاف ابنتي. ويخفف الفرح أبو عادل من وخزات السكر فيطير برقصة من رقصات الجنوب في حفل زواج لينا وغسان ابني.
وقفة مع ملح الحبر وخبز الأحلام 1993- 1999
لقد عملت مع علي الدميني عن قرب, أنا من الرياض أو جدة بالمنطقة الوسطى والغربية، وهو من الخبر أو الدمام بالمنطقة الشرقية، على مشاريع عدة. فالدميني رجل منذور للمشاريع الجادة المشاغبة، مهجوس بالحركة إلى الأمام، ما عرفه الوعي وأدركته حرفة الثقافة ونالت منه بلية الأشواق. فمن مشروع ملحق المربد الأدبي الثقافي أيام جامعة البترول إلى مشروع «مجلة النص الجديد» بعد حرب الخليج الثانية حين صدرت أعدادها الأولى عام 1993م.. ومن مشروع الكتابة المشتركة بتبادل المواقع أسبوعياً معي في عمود تسجيلي تحليلي لحركة الإبداع الحديث على الساحة الثقافية بالمجتمع السعودي ما قبل منتصف التسعينيات مما كان ينشر بالملحق الثقافي بجريدة اليوم تحت عنوان «سيرة ذاتية لتيار جماعي» إبان إشراف شاكر الشيخ - يرحمه الله - على ذلك الملحق، إلى متابعة الموقع الإلكتروني «لمنبر الحوار والإبداع» على الإنترنت.. ومن تقاسم قراءات وأمسيات شعرية متعددة إلى مشاريعه النضالية والشعرية المستقلة التي لا تنتهي.
وقد تعلمت من علي الدميني خلال النشاط الثقافي المشترك، سواء إبّان صدور الأعداد المتتالية من النص الجديد ومواصلة الليل بالنهار لوضع لائحتها، وإخراج عددها الأول، أو عبر العمل والحوار في كل مراحل المد والجزر على المستويين العربي والمحلي الوطني, كيف أن الشاعر لا يمكن أن يكتب قصيدة بلا حب وإلهام، وكيف أن المناضل لا يقدر أن يكون مناضلاً بلا قضية وبلا إيمان والتزام، ولا دون الاستعداد الأريحي لدفع الأثمان؟ وكيف أن المواطن لن يستطيع أن يحيا حياة الكرامة إن فرّط بالحرية واللقمة الحلال و»إن اشترى (لكزيس) بالتقسيط أو كان محظوظاً وحصل على قرض من بنك التنمية العقاري». كما أن علي الدميني نقل إلي بسخاء - وهذا الأدهى - عدوى التسامح التبذيري مع الاختلاف، ورمى في ضميري خميرة لا ينضج عمل شعري ولا وطني بدونها، وهي قيمة الإخلاص.