د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
اتخذت حكومة خادم الحرمين الشريفين مجموعة من القرارات تدور في مجملها حول ترشيد الإنفاق وتنويع مصادر الدخل وتقليص الاعتماد على النفط. وتزامنت هذه القرارات مع صدور ميزانية هذا العام التي جاءت أعلى من توقعات المحللين وبعجز أقل من توقعاتهم.
... وتدور هذه القرارات حول تعديل سعر الوقود وزيادة رسوم الطاقة وأسعار استهلاك الماء، وهي قرارات قد لا تسهم كثيراً في سد العجز بما يوضح أن الهدف منها ترشيد الاستهلاك. وكان قد سبق هذه القرارات قرار فرض رسوم على الأراضي البيضاء بهدف تيسير السكن للمواطن.
ترشيد الإنفاق وتقليص الاعتماد على النفط والقضاء على الهدر المالي أمور طالب بها المختصون من زمن بعيد، بل وترددت المطالبة بها مع إصدار كل ميزانية سعودية ليس فقط في فترات انخفاض أسعار النفط وتقلص الدخل، بل وفي فترات ارتفاع الدخل وأسعار النفط أيضاً. فالخبراء حذروا دائماً من خطورة الاعتماد على مصدر دخل واحد. وقد دعمت الحكومة القطاع الخاص دعماً غير محدود وبكافة أنواع الدعم لأكثر من أربعة عقود ولكن وللأسف لا يزال إسهام هذا القطاع في التنمية أقل مما كان يؤمل منه سواء في إيجاد مصادر دخل إضافية أو في توظيف الشباب السعودي. بل إن بعض مؤسسات قطاعنا الخاص بعد أن شبت وقويت خرجت بأموالها للخارج بحجة أن أنظمة البلاد لا توفر لها العمالة الأجنبية التي تريد أن تستوفدها! ولذلك فلا غرو أن تشمل الإصلاحات القطاع الخاص أيضاً.
الجميع يقف مع الحكومة فيما تتخذه من قرارات وعلى وجه الخصوص تلك التي ركزت على ترشيد الإنفاق، ومراقبة تنفيذ المشاريع، والحد من الفساد، وزيادة مستوى الشفافية. وقد صرح بعض الوزراء بأرقام ضخمة ومخيفة حول كلفة المشاريع الحكومية المتعثرة التي بلغت مئات المليارات دونما تفصيل حول أسباب تعثر هذه المشاريع وأسباب وكيفية تعثرها. ولكلمة ترشيد أكثر من معنى من بينها ما يتعلق بتقليص الانفاق على المشاريع أو ما يتعلق بترشيد أساليب الصرف عليها من حيث المراقبة والتأكد من كفاءة إدارة موارد المشاريع وسبل الصرف عليها. وقد أكدت حكومة خادم الحرمين الشريفين على استكمال مشاريع البنية التحتية الطموحة تحت الإنشاء حالياً، وهي مشاريع اعتمدت في فترة وفرة الموارد النفطية. وبهذا الصدد سيتم إنشاء أجهزة لمراقبة الصرف على المشاريع، ومراقبة أداء المسؤولين وهذا أمر مهم جداً لزيادة الكفاءة ومحاصرة الفساد الذي تسبب في إهدار الكثير من الموارد.
ما تم حتى الآن فعلياً هو رفع أسعار الطاقة وزيادة رسوم بعض الخدمات بهدف الترشيد وتقليص بعض النفقات، ولكن المواطن ينتظر ما هو أشمل من ذلك كخطة طريق واضحة تبين الاتجاهات المستقبلية لإعادة هيكلة الاقتصاد وتنويع مصادر دخله، وكيفية إحداث مثل هذه الهيكلة ومن أين ستبدأ؟ فرفع أسعار الطاقة أو زيادة بعض الأسعار لا تعد كافية في هذا الشأن. كما أن ذلك يتطلب تحديد مكامن الهدر في الاقتصاد وتحديداً إذا ما كان هذا الهدر كمياً كما يحدث في المشاريع، أو كيفياً كما نلحظ في التعليم والتدريب.
فالتنمية التي ركزت عليها خطط مجلس الاقتصاد والتنمية تدور في أهم جوانبها حول التنمية البشرية والاعتماد على الطاقات البشرية في تنويع الاقتصاد. وهذا بالطبع أمر مهم للغاية لأن البشر هم من يخلق الاقتصاد وليس الموارد وحدها. وأي تخطيط مستقبلي لتنمية الموارد البشرية لن يكون سهلاً وسيواجه صعوبات عصيّة أولها وأكثر مباشرة تتعلق بأوضاع توظيف الشباب السعودي الحالية وارتفاع مستوى البطالة لفترة طويلة نسبياً مما ولد الإحباط في أوساط الشباب الذين سيتطلب استنهاض هممهم من جديد جهوداً مضاعفة. وقد يتطلب كذلك أحداث إصلاحات جذرية في المنظومة التعليمية الحالية، وإيجاد منظومات بحثية جديدة تختص في أمور التنمية تقوّم آثار القرارات الحالية والمستقبلية بشكل موضوعي لا مجاملات فيه.
الزيادة في أسعار الطاقة، ورفع رسوم الخدمات قرارات شجاعة اتخذتها الجهات المعنية دون النظر في مدى شعبيتها أو مدى تقبل المواطن لها، فالمواطن شريك في سراء الوطن وضرائه، وهذا أمر يقبله الجميع، ولكن هل سيتبع ذلك قرارات مماثلة لقطاع الاعمال تلزمه بتوظيف الشباب السعودي؟ وهل ستتم مراجعة أنظمة وزارة العمل فيما يتعلق بالتوظيف ومنح الفيز؟ وهل سيتبع ذلك لجان لتتبع ومعاقبة التستر على كافة المستويات لأنه أصبح يشكل سرطاناً لاقتصاد البلاد، وتحول إلى أشبه ما يكون باقتصادٍ وافدٍ داخل الاقتصاد الوطني يستنزف منه ما يزيد على المئة وعشرين ملياراً سنوياً لخارج البلاد؟ وهل يعقل أن نستمر في احتلال المركز الثاني عالمياً بعد الولايات المتحدة الأمريكية في تحويلات العمالة الخارجية؟ وهل سيتبع ذلك ترشيد الانفاق على ما يقارب 12 مليون وافد بالتخلص من الفائض الزائد منهم؟
الأمر الآخر والمهم هو أن تصدر جهات التخطيط والاقتصاد لدينا خططاً ومعلومات واضحة حول الكيفية التي تنوي من خلالها تنويع اقتصادنا، وهل سيكون ذلك باستخراج وبيع موارد طبيعية أخرى أو بزيادة الكفاءة الإنتاجية الحالية، أو بالشروع في تأسيس مناشط اقتصادية جديدة تعتمد على مداخيل النفط الحالية وتقلل الاعتماد على تصديره خاماً تدريجياً؟ أي باختصار ما هي التصورات المستقبلية القريبة، والمتوسطة، والبعيدة المدى لتنويع الاقتصاد؟ نعم كل شيء ممكن، ولا مستحيل مع الإرادة، ولكن ذلك يتطلب تخطيطاً محكماً، وعملاً جاداً، وتقييماً مستمراً، واحصائيات دقيقة بدونها ستخطئ الجهود الأهداف وسنتسمر في الحديث عن تعثر مشاريع التنمية، ونتخبط مرة أخرى. فنحن لدينا إمكانات وموارد محدودة ويمكن أن نتطور بشكل أفضل في مجالات معينة لا في كل المجالات.
ثم، وهذا هو مربط الفرس، علينا أن نحدد أهدافاً محددة وواضحة للتعليم بعيداً عن المبالغات الوطنية والأهداف غير الواقعية. فنحن لا يمكن أن نتحول لمجتمع مصدر للمعرفة لأن إمكاناتنا المادية والبشرية لا تسمح بذلك. والاستمرار في الكلام عن هذا الهدف غير الواقعي يشوش الرؤية المطلوبة لتقييم التعليم. وقد يكون إصلاح التعليم هو مربط الفرس في إصلاح العملية الاقتصادية برمتها. وهذا يتطلب خطوات شجاعة للحد من ليس الهدر المالي فحسب بل والهدر المعرفي أيضاً. والمقصود بالهدر المعرفي هو إضاعة الوقت الثمين للتعليم لحشو أذهان الطلاب بمواد لا تتعلق بواقعهم ولا مستقبلهم. فالمستقبل يخلق في المدارس والجامعات وليس في الوزارات. وجميع الدول التي كانت متخلفة ونهضت لم تنهض إلا بإصلاحات جذرية في مجال التعليم: وهذا ينطبق على الصين، وتايوان، وكوريا، والبرازيل وغيرها، بل إن الدول المتقدمة التي تعاني من تراجع مراكزها الاقتصادية تبدأ أولاً بالنظر في أنظمتها التعليمية.
ولعل من الأهمية بمكان أن نركز بداية في إصلاحنا الاقتصادي بالتأميم النسبي لبعض الأنشطة فيه، وعلى وجه الخصوص الأنشطة الحيوية لمستقبلنا كقطاعات تحلية المياه، والإنشاءات، وبعض الصناعات التحويلية الأساسية المتعلقة بالغذاء والدواء. وأن نغلق منافذ استنزاف اقتصادنا بالتسلط على المشاريع وتسليمها لشركات أجنبية تدرب عمالتها ومهندسيها بأموالنا. فالمشاريع هي مرحلة التطبيق العملي للتعليم، وبدونها لا يمكن تقييم نجاحه.