د.عبدالله مناع
لأنني لم أشارك.. في مراسم تشييعيه ودفنه بمقبرة (الفيصلية) النائية، وتقديم واجب العزاء لابنه وشقيقه وأرحام (آل خُميِّس) وأقربائهم.. في ذلك الصباح الباكر من يوم الجمعة -قبل الماضية-، فقد عزمت على الذهاب بعد أداء صلاة الجمعة مباشرة..
إلى منزله -الذي أعرفه- بـ(حي الروضة).. واثقاً من أنني سأجد ابنه وشقيقه وبعض أهله وأقربائه وأرحامه، وربما كل أصدقائه.. الذين كانوا يترددون على منزله في الدور الثالث من المبنى.. للتشاور وتبادل الرأي حول سبل تطوير مجلته الشهرية التراثية: (رواشين جدة).. المعنية بحياة جدة الاجتماعية والثقافية والتجارية وتراثها المعماري الفريد.. مع ما يتخلل زيارتهم التي تمتد إلى منتصف الليل من فناجيل الشاي بنوعيه، والقهوة بأنواعها، وقطع (الكيك) التي يحسن اختيارها لتقديمها لأصدقائه وضيوفه.. إلا أن قدومهم هذه الساعة لـ(منزله) لن يكون لبحث سبل تطوير (المجلة)، فقد مات صاحبها ورئيس تحريرها.. الذي تحمّل في سبيل إصدارها والاستمرار فيها الكثير من المتاعب والمصاعب، ولولا ذلك الدعم الإعلاني.. الذي كان يتلقاه من بعض بيوتات جدة التجارية الكبرى.. لتوقفت (المجلة) وتوقف معها ذلك الرصد والاسترجاع لـ(جدة) وحياتها وتاريخها.. وتوقف معها ذلك الإحياء لـ(صورة) جدة وحياتها في عقول وقلوب الأجيال الشابة: ليسألوا ويبحثوا ويتشككوا ما شاء لهم التشكك.. ثم ليتيقنوا في النهاية من أن ما كُتب وقرأوه فيها كان تاريخاً حقيقياً.. ولم يكن تاريخاً أسطورياً..!!
* * *
عندما اقتربت من منزل الأستاذ سامي.. كنت أمني النفس بأن أجد كل أولئك الذين تخيّلت وجودهم فيه.. كي أتقاسم معهم (الفجيعة) في فقده،
و(الحزن) عليه.. الذي حط على قلبي.. كما حط على قلوبهم، ولأسترجع معهم أجمل أيامهم وذكرياتهم معه وبما يخفف عني شعوري المتنامي بـ(ذنب) عدم تمكنني من حضور لحظة وداعه ومواراته الثرى بـ(مقابر الفيصلية).. آملاً ألا تكون شواغل الحياة قد صرفت من شاركوا في مواراته الثرى في صباح ذات اليوم عن القدوم إلى المنزل بعد أداء صلاة الجمعة.. باعتبارهم أدوا (ركن) الواجب.. وهو الأهم، ولم يعد في مسؤوليتهم أداء سننه.. حتى وإن جرت بها عادات أهل جدة، لكنني فوجئت بذلك الهدوء غير المتوقع وهو يخيم على الشارع.. إلا من خطى بعض عابريه ممن تأخروا في الخروج من المسجد المجاور له بعد أدائهم لـ(الصلاة): فلا زحام بين السيارات في الشارع.. ولا وجود لأي عدد من الناس على رصيف المنزل أو قرب سوره وبوابته.. حتى كدت أشك في أنني أخطأت طريق البيت!! إلا أن يقيني كان أكبر من شكوكي: فهذا الرصيف الذي أقف عليه.. هو رصيف منزله! وهذه البوابة التي أقف في مواجهتها.. هي بوابة منزله.. رغم طول انقطاعي عنها، الذي ربما بدأ منذ ما يزيد على العام.. أو -على وجه التحديد- منذ اعتزاله رؤية أصدقائه.. حفاظاً على (صورته) عندهم، بعد أن ساءت صحته وتغيّرت ملامحه.. فلم يتعرف عليه -حتى- أحد أصدقائه المقربين، وهو يقف -متحاملاً على نفسه- لأخذ العزاء في شقيقه الحبيب والعزيز عليه (السفير: بكر عباس خميس) الذي سبقه بـ(الرحيل) مأسوف عليه.. بعد عمر حافل في خدمة الدبلوماسية السعودية.. وهو ما دعاه -على ما يبدو- إلى الدخول في اعتزاله (الثالث) والأخير للناس جميعاً من غير زوجه وابنه وابنتيه.. بعد أن اعتزل أولاً الرد على (مكالمات) أصدقائه المحبين له وهم يسألون عن (حاله) وصحته! حتى لا يضعف أمام محبتهم له، فيتحشرج صوته أو يجهش بالبكاء.. مؤثراً الرد على اتصالاتهم بـ(رسائل) على (جواله).. يطمئنهم فيها بأنه بخير، وإلى أن انقطعت حتى تلك الرسائل مع تداعي صحته وكثرة تردده على المستشفى من أسبوع إلى آخر، لإجراء عمليات (بزل) متوالية مرهقة.
على أي حال.. لم أستسلم لذلك الصمت الذي كان يسود المكان، وقد استلفت انتباهي وقوف شخصين يتحدثان إلى جانب بوابة منزله.. لأتقدم من أحدهما وقد بدا لي كأنه (بواب) المنزل: أهذا منزل الأستاذ سامي خميس..؟
فقال: لا..!!
قلت مستنكراً: ومنزل من.. هو؟
فقال: لا أعرف..!!
لأقول له وبجرأة: إذن هو منزل الأستاذ سامي.. ولكنك لا تعرف أنه منزله، فتعال معي لأريك منزله في الدور الثالث.. فصحبني إلى بوابة العمارة الداخلية، التي طرقنا بابها.. فلم نسمع رداً، لنواصل سيرنا إلى (دهليزها).. إلى سلالمها وإلى الدور الثالث منها.. حيث (شقتيه) المتقابلتان، لأطرق باب تلك التي كان يستقبلنا فيها؟ فلم أسمع رداً.. ليزداد الصمت عمقاً ورعباً، ولأهبط السلالم برفقته.. وأنا أتساءل: إذن أين أصبح منزله.. الذي غادره هذا الصباح.. وإلى الأبد..؟
* * *
عدت إلى منزلي: مغموماً مهموماً محروماً.. من رؤية ابنه وشقيقه وصحبة خلانه الأوفياء، الذين كنت أتوقع رؤيتهم في منزل (حي الروضة)، لأهاتف أحد أصدقائنا المشتركين.. لأستوضح منه تفسيراً لما رأيته عند زيارتي لمنزل الأستاذ سامي في (الروضة)؟
ضحك وهو يقول: (لا.. أنت عهدك عهد قمري)..!! لقد بيع بيت الروضة، وتوازع ملاكه عوائده.. وتفرقت بهم السبل، ليشتري الأستاذ سامي.. بيتاً جديداً له في مجمع (مَشَارف) السكني بجانب منزل ابنه في ذات المجمع، وهو الذي مات فيه..!
لأقول له: وأين مجمع (مشارف) هذا..؟
قال: في الطريق إلى (عسفان).. بعد محطة (قطار الحرمين) التي يجري إنشاؤها هناك..!
قلت مستهولاً الأمر: أفي (عسفان) التي نعرفها..؟
قال: نعم.. ما غيرها.
قلت: ليتك تمدني.. بوصف دقيق لهذا المجمع.. أو بـ(خريطة) توضح الطريق إليه، حتى لا يفوتني حضور أول أيام عزائه.. فيتضاعف شعوري بـ(ذنب) عدم مشاركتي مراسم دفنه في ذلك الصباح، وقد تخيّلت (سامي) وهو في أرديته البيضاء وغيبة موته.. يبحث عن (صورتي) و(صوتي) بين مودعي لحظاته الأخيرة في الدنيا.. فلا يجدهما..!!
لأعوّض بالتحدث -وعلى الفور- إلى ابنه (ساري) عما عانيته من صدمات ودهشة وأسف.. في تلك السويعات من ظهيرة يوم الجمعة، ولأواسيه.. وأسأله أن يكون خير ابن لـ(خير أب)، ولأتأكد منه: إن كان العزاء في مجمع (مشارف).. أم في غيره؟
ليقول لي: نعم.. في (مشارف)، التي لا أعرفها.. ولم أسمع بها من قبل!!
* * *
في مساء اليوم التالي، وبـ(الأوصاف) التي تلقيتها على هاتفي، وبـ(الخريطة الإلكترونية) التي يحسن أصغر أبنائي (هشام) استخدامها وقراءتها.. كنا نصل بعد قرابة أربعين دقيقة إلى مجمع (مشارف) السكني هذا، وإلى (باحة) عزائه الملاصقة لمسجده.. وسط إضاءة هادئة، وصمت مطبق لغياب المقرئين وشجو قرآنهم.. لنأخذ مكانينا بين المعزين، ونغرق في صمتنا وهمهمات التفجع والأحزان من حولنا..!! لأسأل نفسي: ألم يجد (سامي) خيراً من هذه (الهجبَّة) التي كانت -حتما- مرتعاً للذباب والثعابين والزواحف من كل نوع.. قبل ثلاثين عاماً لتكون بديلاً لبيته الآهل في حي الروضة..؟ أم أن مثلنا الشعبي القديم (إيش اللي رماك على المر...) كان حاضراً عند اختياره أو اضطراره لهذا الموقع، الذي يعتبر بحق (آخر الدنيا)، الذي يبدو أن ملاَّكه قد أدركوا تماماً حقيقة موقعه فسموه (مشارف)!! إذ لا يوجد أفضل من هذا الاسم.. لهذا الموقع، لأنه فعلاً -في آخر الدنيا- وعلى مشارف جدة الكبرى من ركنها الشرقي الشمالي..!!
* * *
مع صمت جلسة عزائنا التي طالت.. وتلك الرياح الشمالية المسائية الباردة التي أخذت تهب علينا.. كان ملف ذكرياتي مع أخي العزيز -الأستاذ سامي عباس خميس- يفتح صفحاته على أول هاتف أتلقاه منه قبل خمسة وعشرين عاماً أو يزيد: يسألني فيه رأيي في أول عمود صحفي ينشر له في صحيفة عكاظ؟ وكنت من حسن الحظ.. قد قرأته لأنه كان يتحدث فيه عن (جدة) وهمومها.. فقلت له: معقول.. لو التزمت الحق دائماً.
فقال مجاملاً: إن (معقولك).. شهادة أعتز بها، وسألتزم الحق بقدر ما أستطيع.
قلت له: وهذا يكفي..!
وواصل الكتابة (سامي) ابن مدرسة (العلاقات العامة) بالخطوط الجوية العربية السعودية، وتلميذ مدرسة الطيران المدني.. ورائدها الأكبر: السيد حمزة دباغ، الذي كان (الطيران) عنده ليس علوماً ومحاضرات و(سكاشن) عملية تطبيقية.. فقط!! ولكنه (أناقة) في الملبس، وأناقة في الحديث، وأناقة في المأكل، وتحضر في (السلوك).. وقد كان لـ(سامي) أوفر الأنصبة من كل ذلك.. بل وأضاف إليها إلى جانب عشقه للفن والموسيقى والغناء، الذي أوصله إلى تقديم برنامجه الإذاعي المتميز (الفن وأهله)، أمرين: (التصوير الفوتوغرافي).. كأداة تسجيل للحدث، ولغة تعبير وجمال، و(تصميم الأزياء).. بألوانها الخاصة والمتميزة.. لينتقل بقلمه الاجتماعي المتزن من عكاظ إلى البلاد فالمدينة.. لتخطفه (أمانة جدة) في عهد أمينها الأسبق المهندس عادل فقيه.. لإصدار مجلة شهرية باسم (جدة)، وقد صدرت، بل وتواصل صدورها.. مع كل الأمناء الذين تعاقبوا على مقعد الأمانة.. إلى أن اختار التحرر من قيودها الرسمية، ليصدر مجلته (رواشين جدة)، التي أسعدته بقدر ما أرهقته.. ولكنها -في النهاية- جعلت لاسمه مكاناً وتاريخاً صحفياً لا ينسى.
لقد كنت أقول له ذات يوم: إن هذه (الرواشين) الجميلة الباهرة.. تعاتبنا بـ(صمتها)، وكأنها تقول: لِمَ.. وكيف تركتموني..؟!
أما اليوم.. وقد مات صاحب (الرواشين) سامي خميس، فإنها ستتساءل بصمتها.. عن (خُميِّس) آخر يدللها ويرعاها ويعمل على حفظها من الاندثار!!