د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
حضرت الثقافة في بلادنا بتعدديتها، وأصبحت ظلاً مرادفاً للحياة الممتدة عند جميع فئات المجتمع صغاراً وكباراً، وكذا عند ذوي الثقافات الفرعية من المتخصصين، فكان أن كسب الحراك الثقافي بين الحين والآخر حُزماً من الأضواء من خلال الأندية الأدبية الثقافية.
وبعض القطاعات الأخرى التي تتبنّى بعض البرامج والأنشطة الثقافية من خلال الملتقيات والمهرجانات، وكثير من تفاصيل المشهد كما في «سوق عكاظ «الباذخ ثقافة وأصالة، والجوانب الثقافية الحافزة في «مهرجان التراث والثقافة في الجنادرية» ومهرجان «قس» في نجران الأبية، والمعرض السنوي النامي للكتاب في العاصمة الرياض، والفتيّ في محافظة جدة، فالساحة الثقافية اليوم مفتوحة أمام جميع الفئات؛ لنشر المبادئ المثلى، وإضاءة الفكر المجتمعي، وشحذ الهمم للنهوض، كما أنها تستوعب محافل أخرى من صيد الأذهان، وقطوف الفكر، وشذرات العقل، وأعتقدُ أن ذلك الوهج تلزمه انعطافة مفصلية، في صناعة الخطاب الثقافي في بلادنا، حيث وادي عبقر، وحيث تربى سيد العرب محمد -صلى الله عليه وسلم- وحيث انبثق نور الإسلام وعلا خفاقاً، وحيث البوادي الثرية التي كانت مقصداً لقوافل الباحثين عن الفكر والمعرفة في العهود القديمة، وحيث نواتج حصافة الرأي وقوة العارضة، وحيث ملكنا سلمان -حفظه الله- صديق الثقافة والمثقفين الذي شق للثقافة في كل مرتبع مهداً، وأقام لها مناراً، ومن هنا فلا بدّ من احتضان آخر للثقافة، وأن تتربع في كل فضاءاتنا؛ نعم هي أحلام أرجوها، وآمال طالما تعلقت على جدران ذاكرتي، وتسلقت أغصاني، واستقرت في وجداني، مفادها أن تتبنى الجهات المعنية مشروعاً ثقافياً مضمونه تعصير التراث، وصناعته بأدوات الحاضر، وصياغته بأسلوب ميسر، وإيجاز مطولاته، واختزال متونه ومجلداته مع إحاطة مضامينه بأطواق من الحماية عن التحريف والتبديل والتغيير، ليخرج التراث العلمي والأدبي (الثقافي الأصيل) من حصاراته المتعددة، وحصونه المنيعة التي لا يستطيع اختراقها في هذا العصر إلا المتخصصين، وأولي العزم منهم، وربما يكون هذا الاختراق خلال حاجة البحث عن معرفة، أو توثيق معلومة أو الوصول إلى ترجيح معلوماتي لمصادر عديدة.
إن هذا المشروع سوف يخرج التراث من أكنانه إلى عالم اليوم، وثقافة العصر، وإلى الإعلام بأشكاله وقنواته، وإلى مكتبات المدارس الخاوية على متونها، وإلى المكتبات العامة والخاصة، فيحتفل بها عالم المثقفين اليوم بكافة الفئات والأعمار، إضافة إلى أن المشروع سوف يؤسس مكتباتنا اليوم لنغمات ثقافية جديدة تلبس حللا جديدة أيضاً، مع المحافظة على أصالة التراث ورونقه وبريقه، وقدرة معلوماته على إحداث المعرفة وفصل الخطاب.
ومما يحدوني الأمل إليه أيضاً أن تتحقق من خلال المشروع صناعة ثقافية يراهن عليها العالم من حولنا، مضمونها الرؤية العميقة، والاعتدال والعدل، واللغة الهادئة، والصوت العاقل، ثقافة يعتدل من خلالها المائل، ويعذب الماء، (وتصبح الأرض مخضرة).
وختاماً فإن ما يُرمى به الفكر الثقافي أحياناً من ضحالة وانحدار، وانهيار قيمة التعبير، واستجلابه من آفاق ربما كان حضورها يجعل الكتاب المحلي (يتوارى من سوء ما بُشّر به)، يجعلنا حتماً نحتاج إلى أن تكون لدى المرجعيات المعنية بصناعة الكتاب حقائق مقنعة يُدفع بها إلى المؤلفين، ويقبلها المتلقي، وأن يُبحث عن بدائع الفكر، وجليل القول، والحكمة وفصل الخطاب، وأن يحفز الناشئة على قراءة التراث، وأن يحتفل بصناعة الكتاب الخلاق، كما يحتفى بمعارض الكتاب وخزائنه.
نعم نحتاج صناعات ثقيلة للفكر التراثي من خلال الكتاب، يحيطها قدر كبير من الانفتاح على المجتمع، وأن يكون موقفناً من هذا التراث الثقافي الضخم في عصر العلوم والفنون والمخترعات، وعصر تواشج الأمم وتقاربها واندماجها، موقف المفاخر المستفيد بما تحتويه أكنانه، وما تختزنه من فكر أسلافنا، وأن يكون ذلك منطلقاً لتعزيز صناعة الواقع الثقافي الجديد في بلادنا.
يقول ابن الرومي:
أما ترى الغرس لا تذوي كرائمه
إلا على سوقها في سائر الأبد
وأقول:
إشراقة الأزمان في القرطاسِ
ومقاصد الأوطان عند الناسِ
هذي المعارف والعلوم تزيّنت
في روعة التفكير بالألماسِ
ويسير في خبر الكتاب تراثُنا
يا شامخاً يا ضافي الأ لباسِ
آثارنا شم الجبال ترومها
تاج يضيئ فوق هام الراسِ
هذي كنوز المبدعين تبلورت
في حكمة التجريب والمقياسِ
وبدت أزاهير التقدّم غضة
عبر المصادر بلسم الجسّاسِ
ثم استوت لغة العصور روائعاً
في حفظ ذاك الكنز في القرطاسِ