د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
إن فوارق الاستجابة الفكرية بين جيل الأبناء الناشئ وبين جيل الآباء تُظهر القيمة الحقيقية في موازين مقارنة الأفعال بينهما كنموذجين متقابلين للاتجاهات المتضادة أو المتقاربة، ولأن التطورخريطة نامية تتحقق من خلالها معادلة البناء التوافقي بين الجيلين، ومن قوة إطلاقها ووجودها تأتي الاختلافات الشائكة؛ ففرق بين الالتزام المفتوح التلقائي بما يجب أن تكون عليه حياة الإنسان من المثل العالية، وبين أن يُلتزم بها بين الجماعة لكسب المدح والثناء، واتقاء العقاب.
والفجوة اليوم تُوجد نفسها، وتسقي زرعها بين جيل الآباء وخضرمته في الواقع؛ وهو الذي ما انفك يحيط الأبناء بنظرات ترقّب ورقابة، حيث تشكل شريحة الأبناء اليوم شكلا من أشكال القلق المشروع الذي لبسه هاجس الآباء، وامتد ذلك القلق إلى المجتمع بأسره، باعتبار فئة الأبناء من الشباب أهم القوى الاجتماعية إن أردنا أن نتقدم أو أردنا تغييرا.
ونتساءل في هذا المقام هل استطاع الآباء أن يؤازروا أبناءهم ليصلوا إلى سقف الكفاية المطلوبة، وأجزم أن الفجوة الحاصلة اليوم في الفكر بين الجيلين نتيجة لتمييع المسؤولية، وتسطيح واقعها، والابتعاد عن أولويات الحياة، وحيوية استمرارها، مما نحتاج معه إلى وقفة نقدية لدراسة العلاقة بينهما التي يجوز أن نسميها قاصرة عن بعضها البعض، وما يستحقه واقع التحولات الحالية في محيط الأبناء اليوم، وحتمية وجودهم في المجتمع باعتبارهم داعما قويا يردف حياة الآباء داخل الأسرة وخارجها.
قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (46) سورة الكهف.
وأتذكر أن أحدهم قال مجازاً: (إن الأبناء ناقل للأكسجين في حياة الآباء) ويقول الشاعر حطّان بن المعلّى:
وإنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم
لامتنعت عيني عن الغمضِ
وحقيقة نقول: إن الوسط اليوم مشتعل بين الجيلين؛ حين غابت الرؤى الداعمة لمد جسور التوافق، والتوازن بين المعاصرة التي يحتمها واقع الزمان، وبين قلق الحال الذي يحيط بالآباء، مما يكتنف ذلك الهروب من مسافاتهم المسكونة من قبل الأبناء.
ولعلي أعلق أجراسي حول تلك القضية, وأبسط أسبابها من الفارق الثقافي، وغياب الوعي التربوي، وتواري الوازع الديني، ووجود عناصر غريبة تشارك الأسرة مسؤولية التربية، ويجب ألا نظن أن الواقع سيجاملنا لنعبر بوابة الأبناء من خلال إصلاح تلك الأسباب التي ربما تكون غير مؤثرة في واقع اليوم ذلك التأثير الذي نشأت منه تلك القضية بمكوناتها، فيجب أن نغادر تلك الأسباب سريعا لنحاول تصحيح معادلة الواقع الحالي التي جعلت كلا من الجيلين يسقطون من المراكب، ويجرف الموج كل منهما إلى ضفة أخرى، ويتبادلان اللوم فكل منهما يلقيه على الآخر، فقد غاب سند القوة الذي يأمله الآباء, وتزعزع سند العقل والحكمة الذي كان ينتظره الأبناء.
ونخلص من ذلك إلى أن التوازن المطلوب لتحقيق رونق الحياة بين جيل الآباء والأبناء حتماً يحتاج إلى اتفاق ضمني مشترك للالتفاف حول القيم والمبادئ لتكون مصدر تآلف وتلاحم بين الجيلين، ومن وثائق ذلك الاتفاق النص الرباني المقدس: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (23-24) سورة الإسراء.
وفي المقابل اتفاق آخر مع الآباء مشترك أيضا، يقول مربي هذه الأمة رسولنا محمد- صلى الله عليه وسلم- «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته..... إلى آخر الحديث» متفق عليه.
لذا ينبغي أن نبحث عن حظ ذلك الاتفاقيات الضمنية من تحقيق مراكز جاذبة في مسيرة الجيلين، ونسعى لاكتشاف الحلقة الأضعف حتى لا نعود بخفي حنين. فلا بد أن يمتلك الآباء أدوات سلوكية ونفسية وفكرية للتعامل مع الأبناء لاحتضانهم وجدانيا ومن ثم عقليا، وعند ذاك تستند الأحاسيس الراقية على الواجب الذي رسمه الشرع في ميثاق خريطة التعامل المثلى، فعندما يكون سلوك الآباء قدوة ونبراسا فإن قبول تبدل واقع الأبناء ثم استشراف مستقبلهم، وبناء النموذج الأبوي المتوازن الذي يكون مستعدا للتكيف مع ذلك الواقع حتما سوف يغري بافتعال واقع أسري جميل ومحفز، وأكثر التصاقا بالحياة؛ ولابد أن يحرص الآباء على عدم الوقوع في الخلط والمماثلة بين ما عاشوه في زمانهم وبين واقع الأبناء وامتدادهم. يقول علي بن أبي طالب- رضي الله عنه-» لا تربوا أبناءكم كما رباكم آباؤكم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم» وليس من العسير البرهنة على ذلك، وقد سئل حكيم عن سر تآلفه مع أسرته فقال: «بسبب التعاون الصادق مع مالا يمكن تجنبه» فإذا ما تقاربت الخطى بين الآباء وأبنائهم أصبح تحالف الشباب مع المستقبل واردا، فالفجوة التي اتسع نطاقها كانت ذات حضور قوي اكتشف الآباء خلالها أنهم في زمن هارب، ولكنه اصطحب الأبناء في رحلة الهروب ذات القانون الملزم، وقد حاول الآباء استرداد أبنائهم ولكن بأدواتهم القديمة وأبجدياتهم القديمة، حتى المواثيق كانت قديمة فما نجحوا إلا من رحم ربي فممكنات التقارب بين الجيلين معنوية تتواشج لتصنع أجيالا صالحة من الأبناء يتمثلون القدوة في آبائهم مع تركيز الآباء على تركيب نموذج حياة الأبناء من جديد ليرددوا ولكن برؤية مختلفة..
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ