سهام القحطاني
قد يرفض بعض مثقفي العرب تعليق فشل العرب سياسيا على ظهر «نظرية المؤامرة» فهم يُرجعون ذلك الفشل إلى ضعف العرب أنفسهم و عجزهم عن تكوين قوة حقيقية مؤثرة في حركة ميزان القوى العالمية. في حين يرى طرف ثانِ أن ما يعانيه العرب اليوم من تضعيف و تفشيل و تجهيل ماهو سوى مؤامرة تسعى إلى إخراج العرب من أي تأثير عالمي.
وما بين الرأيين السابقين يقف رأي ثالث فلا ينكر نظرية المؤامرة جملة و تفصيلا، ولا يستبعد العرب أنفسهم من حاصل ما وصلوا إليه. إنما يؤكد على أن طبيعة حال العرب منذ تفكيك الدولة العثمانية شجعت القوى الكبرى على التخطيط لبقاء العرب معلقين في «خانات السلبية» و«قوالب التجميد»»و فئة المستهلكِين و الضعفاء».
وقد يسأل البعض ولماذا كل ذلك، أو العبارة بصيغة أخرى، لماذا تسعى القوى العالمية إلى تقييد العرب بالضعف والجهل و السلبية و التخلف النهضوي؟.
والإجابة هي ؛لأنهم «قوى عظيمة ساكنة» متى ما تحركت «حكمت العالم»
فهي تملك «دينا» له قدرة فائقة على «الحشد الجماهيري» و تملك «تاريخا» له قدرة فائقة على «التحفيز المستمر» وتملك «حضارة» لها قدرة فائقة على «إعادة تجديد نفسها» لأن قواعدها ثابتة، و تملك «إيمانا» بتفوق عظمتها و خلودها،وهذا ما أشار إليه صموئيل هنتجتون في نظريته صدام الحضارات. هذه النظرية تعيدنا إلى تاريخية العلاقة بين «العرب و أمريكا» التي بدأت من مواقف أمريكا من القضية الأولى للعرب «قضية فلسطين».
إن موقف أمريكا من القضية الفلسطينية أدخل طرفا ثالثا ما بين العرب و أمريكا وهي إسرائيل التي أصبحت بعد احتلالها لفلسطين العدو الأول للعرب و بطلة الفصل الأول من حكاية العرب وأمريكا.
وهكذا تبلورت أول ملامح علاقة الصراع العربي الأمريكي من خلال أسلوب أمريكا المستمر والأعمى في مناصرة إسرائيل ضاربة بكل حقوق العرب عرض الحائط.
ومناصرة أمريكا لإسرائيل لا تقتصر في وقوفها السياسي والاقتصادي معها في احتلالها لفلسطين أو تشريعها لكل جرائم العنف التي ترتكبها إسرائيل في حق الفلسطينيين، بل تمتد علاقتها إلى جذور عميقة في تربة تاريخ أمريكا.
ويظهر هذا التأثير بين الأمريكيين والإسرائيليين من خلال ما قالته وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق مادلين اولبرايت فقد ذكرت في مذكراتها الجبروت و الجبار أن الأمريكيين الأوائل «قارنوا أنفسهم بدون تحفظ بالإسرائيليين القدامى كشعب اختارته العناية الإلهية للمشاركة في وضع خطة إلهية... لقد كان من الطبيعي للأميركيين في ذلك الوقت ربط حريتهم بالحرية التي حصل عليها موسى ،وأرضهم الخيّرة بالأرض الموعودة لليهود.»
ويمكن أن نستنتج من كلام السيدة اولبرايت أن «علاقة الاقتران» التي توّحد بها الأميركيون الأوائل مع التراث الإسرائيلي تفرض عليهم الإيمان بالحلم الإسرائيلي في استعادة الأرض الموعودة، و تفرض على الخطاب السياسي الأمريكي و صنّاع القرار السياسي مناصرة هذا الحلم حتى يكتمل.
إن فكرة الاقتران تلك التي شكلت الوجدان التاريخي لأمريكا، جعلت مناصرة إسرائيل هو «واجب مقدس» فالإيمان بأن استعادة الأرض الموعودة في ذهن الوجدان التاريخي الأمريكي هي إرادة إلهية، و الإيمان بأن أمريكا هي الأمثل لتنفيذ الإرادة الإلهية،أو كما قال الرئيس الأسبق رونالد ريغان بأنهم «شعب آمن بأن الله اصطفانا لإنشاء عالم أعظم» هذا الاصطفاء الذي يحتم عليهم تنفيذ الإرادة الإلهية والذي يتقابل بلا شك مع ثيمة الشعب المختار، ومن هنا تصبح مناصرة أمريكا لإسرائيل واجب مقدس لا يجرؤ أي خطاب سياسي أمريكي أن يتجاوزه أو يقفز عليه، ولذلك لا نندهش عندما تكون أمريكا أول دولة في العالم اعترفت بدولة إسرائيل في عهد الرئيس «هاري ترومان» وهذا الاعتراف يعتبره الخطاب السياسي الأمريكي لحظة تاريخية مجيدة كما عبر عن ذلك الرئيس الأسبق بلّ كلينتون في الذكرى الخمسين لقيام إسرائيل عندما قال: «لقد عشنا نتحدى اللحظات المجيدة في تاريخنا بأننا كنا أول من اعترف بإسرائيل».
وهو ما يعني أن النهج الذي افتتحه هاري ترومان أصبح نهجا موحِدا للسياسة الأمريكية في هذا المجال؛ من تأييد مطلق لحق إسرائيل في فلسطين واعتبار هذا الأمر- خلق الدولة الإسرائيلية – هو بمثابة «إعادة قيام حكمهم الذاتي في أرضهم التاريخية» كما قال رونالد ريغان عام 1984م.
كما استخدمت أمريكا «31» مرة حق «الفيتو» في مجلس الأمن لحماية إسرائيل من تحمل مسؤولية جرائمها في حق العرب من عام 1967م حتى عام 1990م. كما تطرقت السيدة أولبرايت في مذكراتها عن العلاقة السياسية بين الأميركيين و الإسرائيليين و موقف العرب منهما. فهي ترى أولا أن «منح فلسطين لليهود» هو تعويض لهم عن المعاناة التاريخية التي عاشها الشعب اليهودي من اضطهاد و تشريد و تعذيب و تقول في هذا ا لصدد «لم نر في إنشاء إسرائيل إعادة تأهيل لشعب فحسب، إنما أيضا لفتة كياسة من قبل الجنس البشري بأكمله».
ولا يقتصر الفكر السياسي الأمريكي على إلزام العرب بدفع الثمن الذي يعوّض اليهود عن اضطهادهم التاريخي من خلال تنازلهم عن فلسطين لهم، إنما يذهب هذا الفكرة إلى الحسبة الآتية التي أوضحتها السيدة أولبرايت فهي ترى أن لدى العرب «مدن مقدسة أخرى و كثير من الأرض» ولذلك فطلب أمريكا من العرب بمنح فلسطين لليهود من أجل « إفساح متسع لشعب إسرائيل الصغير في المكان الوحيد الذي كان لديهم وطن حقيقي فيه» ليس في رأيها بالطلب الكثير.!
كما أنها تعترض على اعتقاد العرب بأن «اللوبي الإسرائيلي» هو الذي يتحكم في صناعة القرار الأمريكي في هذه القضية، واعتراضها يقوم على أن صناعة القرار الأمريكي في هذه القضية يعتمد على توّحد الوجدان الشعبي الأمريكي مع حق اليهود في فلسطين وهي تحدد لهذا التوّحد الوجداني سببين هما:
السبب الأول؛ التشابه بين الأمريكيين و اليهود من حيث الصفات، واحترام المجتمع الإسرائيلي أو كما تقول» إن الأميركيين من الطيف الأيديولوجي بأكمله يدعمون إسرائيل؛ لأننا نجد في ذلك المجتمع الصفات التي نرتبط بها و نحترمها».
و السبب الثاني كما تقول»يهتم الأمريكيون أيضا بإسرائيل بسبب التراث الديني المشترك»، وتٌضيف في مجال المشترك الديني»غير أن الاعتبارات الدينية بالنسبة لبعض الأميركيين تتجاوز أي اعتبار لإنصاف الفلسطينيين، وهم مقتنعون على أساس العديد من المقاطع التوراتية بأن يسوع لن يعود إلا عند إعادة بناء هيكل سليمان وخوض الحرب الحاسمة بين الخير و الشر التي وصفها سفر الرؤيا».
ولاشك أن هذا الوجدان التاريخي الديني الأمريكي تشكّل بمعية مغالطات تعمّد الإعلام الغربي ترسيخها عن العرب والمسلمين تلك المغالطات التي صوّرت العرب كأمة همجية متخلفة عنيفة تملك الكثير من الأموال و الكثير من الغرائز الشهوانية، لايحكمها علم ولا معرفة ولا ديمقراطية ولا حضارة.
وبذلك سنجد أنفسنا ليس أمام تطرف سياسي أمريكي بل يُضاف إليه بل و قبله تطرف وجداني تاريخي ديني و تطرف إعلامي يتحرك من خلال أيديولوجية خاصة،كل تلك الأمور هي التي تتحكم في علاقة أمريكا بالعرب، ولا تنتهي الحكاية هنا بل هي بداية الصراع.