الإبحار في عمق النفس الإنسانية غالباً هو جالب للدهشة، لأنه مزيج من الفطريّ والمكتسب، وبينهما لا يخلو من صراع بين النفحة الروحانية التي منحها الخالق للبشر والغواية التي تعهد إبليس بإرادة الله أن يضل بها البشر.
فُطِرَ الإنسان على الخير واكتساب الشر، فهل هذه ثنائية نطمئن إلى صحتها المؤكدة؟.
أعتقد أن ليس هناك ما نطمئن إلى صحته المؤكدة وخاصة لصادر ووارد الفعل الإنساني؛ لأن الشر لمحاربة الشر أمر جائز، والشر لإثبات الخير أمر جائز، والشر لنشر الخير أمر جائز، وتلك المسلّمة هي التي شرّعت التطرف والعنف، و»توهان القيم».
ووفق تلك المسلّمة يتعقد عمق النفس الإنسانية ليصبح ما يتضح من ذلك العمق تجربة التعلّم التي تشكّل ذلك العمق من خلالها.
يتعلّم الإنسان بالتجربة أن القوة هي التي تُكسب الإنسان تقديره لذاته، والقوة المادية هي الأقرب لفهم الإنسان، وهي «قوة لا بد أن تكون مثالية»، ولذلك ما يلبث أن يُشرّع مبررات لرفع صفة التوحش عن تلك القوة ومنحها صفة المُقدّس، وتلك الصفة لا تتحقق إلا من خلال ربط القوة بوظيفة دينية أو مهمة دينية.
ويتعلّم المرء أن القوة الحقيقة هي التي تتمثل من خلال «السلطة»، فلا قوة دون سلطة، ولا سلطة إلا بقوة، وكل سلطة لا يمكن أن يُحقق لها الملك والحكم إلا من خلال الصراع مع الآخر.
وتتعدد مصادر القوى المكونة للسلطة ما بين الدين والسلاح والعلم والتاريخ والثقافة.
وبما أن السلاح قوة متحركة التفاوت والتداول مثله العلم والتاريخ والثقافة، كما أن قوة السلاح والعلم والتاريخ والثقافة لا يمكن تثبيت قوة صلاحيتهم طويلة المدى إلا من خلال «عقيدة». ولذا يظل الدين في هذه المنظومة القوة الثابتة غير القابلة لِمُحرك التفاوت أو التداول.
وبذلك فالدين هو مصدر الصراع الإنساني عبر العصور المختلفة؛ لأنه حامل مؤكد غالباً للحق والصِحة، وتلك المحمولية هي التي تُشرعن له وجوبية التطرف والاستبداد.
تكاد تكون العلاقة بين الاستبداد والصراع علاقة متشابكة، فكل استبداد يؤدي إلى صراع، وكل صراع يُنتج استبداداً؛ والاستبداد الدافع للصراع هو الاستبداد الظالم، والاستبداد الذي ينتجه الصراع هو الاستبداد المنتصر؛ ولذلك غالباً ما يتحول المنتصرون إلى مستبدين؛ لأن القوة دافع إغراء لتحصيل السلطة، والقوة والسلطة دافعا إغراء لإنتاج الاستبداد.
يبنى الصراع نتيجة «الاختلال المقصود لِموازنات القوى المتكافئة» كما يقوم على «قوة سلب لخصائص سلطة أو تمييز أو تفاضل من قوة أخرى» مقابل «قوة دفاع مناهضة لقوة السلب»، لتحقق قوة السلب تلك شمولية السلطة وتكاملية الخيرية، وهو ما يعيدنا إلى دائرة الصراع الأولى «أنا خير منه»، وهي الدائرة التي ما تزال تكرر نفسها في كل صراع ولكن بوجوه مختلفة، ليظل أصل الصراع ومحرك مساراته تلك الاصطفائية في أقطابها المتعددة. لذا سعى الإنسان كما سعت الجماعات والقوى المختلفة إلى بناء «خيريته» على حساب خيرية الآخرين، ليتمكن من تحقيق سلطة شمولية وخيرية قدسية تختلف عن خيرية الآخرين أو تُلغي خيرية الآخرين.
والخيريّة لا تستقيم بالتوازن إنما بالتمييز والأعلويّة، وهو ما جعل إثبات خيرية التمييز والأعلوية مصدراً للصراع دائماً؛ لأن الصراع دائماً هو الاختبار لقيمة «قوة تلك الخيرية». ومتى ما تم إثبات قوة تلك الخيرية استوجب لها شرعية السلطة الشمولية ثم الاستبداد. ووفق التنافس في تحصيل «أحادية الخيرية المطلقة» بدأ الصراع واستوجب الاستبداد.
إن القوة الكاملة والسلطة الشاملة لا يمكن أن تتحقق إلا في ضوء أحادية مطلقة مما يعني أن التعددية كمغذٍ للاختلاف تمثل خطراً على تحقيق تلك الأحادية، ولذلك أوجبت السلطة الشاملة الاستبداد.
ويُمكن إيجاز مفهوم الاستبداد بأنه «فرض الأيديولوجية الأحادية لقيادة المجموع المختلف» باعتبار كمالية تلك الأيديولوجية وصلاحيتها لكل المجموع، ومن أجل تحقيق ذلك الاستبداد لا بد من سحب قوى المجموع لإضافته إلى أصل الأيديولوجية الصانعة للاستبداد.
ويُمكن تقسيم أنواع الاستبداد إلى ثلاثة أقسام؛ استبداد فرد لمجموع، واستبداد حكومة لشعب، واستبداد حكومة لحكومات أخرى.
وبما أن الاستبداد لا يتحقق في ظل «توازن القوى» فثنائيات «القوي والضعيف» و»العلم والجهل» و»الديمقراطية والديكتاتورية» و»الحرية والعبودية» و»الإيمان والكفر» غالباً ما تكون هي مؤسسة سلطة الاستبداد. كما أن تلك الثنائيات تنبني على أساس المفاضلة بمطلق الصحة وإرادة قدسية لتحقيقها، وهو ما يعني أن «كل ما سواها» هو باطل الصحة وشيطاني الإرادة، ومن خلال هذا التقاطع ينشأ الصراع؛ إثبات أن ما هو مطلق الصحة هو كذلك، وفي المقابل إثبات أن ما يُدعى عليه بالبطلان والشيطانية هو غير ذلك، لذا لا توجد صحة مطلقة إلا في إفراغ الآخر من عقيدته المهددة للعقيدة الساعية للتمكين.
وهكذا ما تُبنى عليه تلك الثنائيات كمصدر للصراع يصبح هو القانون الذي ترجع إليه مدركات تحصيل التصورات والتصديقات الصحيحة بالاعتبار.
وبموجب هذا الاعتبار يظل الصراع بين الأيديولوجيات مستمراً؛ لأنها لن تتفق على «حدّ خاص» يُنهي خلاف صراع تلك الأيديولوجيات؛ لأن الاتفاق على «حدّ خاص» فيه «نصرة» لأيديولوجية على أيديولوجية، وهذه «النصرة» التي تتحول إلى «لوحة وظيفية» بأصنافها المتعددة سواء المتعلقة بالحدس أو بالعلاقة، هي الضامنة لكمالية تلك الأيديولوجية والمشرّعة «لسلطتها الشمولية»؛ لأنها تُثبت تصورات فهمية قاطعة.
ووفق حيثيات ذلك الاعتبار بمتعلقاته يمكن القول إن «الصراع» هو «قدر إنساني» يتوافق مع طبيعة الإنسان الساعية إلى قيمة الكمال وتلك القيمة لا تتحقق إلا بشرطين هما؛ «احتكار كافة الخصائص الموجِبة للكمال» سواء بالأصل أو الاستعارة أو التجاوز أو السلب، ووفق ذلك الاحتكار يتحقق الشرط الثاني «السلطة الشمولية» بموجب استحقاقات ذلك الاحتكار.
إن «دلالة الاحتكار» غالباً ما تتجه نحو مسار أعلوي مُستقطِب بأثر القوة خصائص التمييز المغذيّة لاستمرارية قوة مستدامة تظل تتحكم في قدرات الآخرين، كما تظل حاجات هؤلاء الآخرين مرتبطة التحقق بدوام تلك السلطة، وحتى تتمكن تلك القوة من تحقيق استدامة مطلقة كان عليها أن تسلب خصائص تمييز الجماعات التي قد تتحول تلك الخصائص إلى قوة موازنة للقوة المستدامة أو مناهضة لها.
ومن هنا يُمكننا إيجاد تفسيرات منطقية لأسباب الصراع والاستبداد.
- جدة