سهام القحطاني
قد يندهش البعض من عنوان هذا الموضوع «ثقافة التوحش» ونقطة الدهشة أو التعجب معلقة في مسألة «اقتران التوحش بالثقافة».. فهل التوحش الذي ارتبط في اعتياداتنا الذهنية باللا ثقافة، هو اليوم ممثل لثقافة؟.
عندما نعود إلى النص القرآني في هذه المسألة نقف عند قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (30) سورة البقرة.
ولو تخطيت ثيمة «قدرية الصراع» التي تناولتها سابقاً، إلى فكرة توصيف الطبيعة الإنسانية التي عبَّرت عنها الآية الكريمة «بالإفساد وسفك الدماء» وكأن هذا التوصيف ممثلاً لجذر لتلك الطبيعة، وهو توصيف قد يُؤسس لأصل القائم على «التوحش» الدافع للإفساد وسفك الدماء.
هذا الأصل الذي يدفع الإنسان دوما إلى تطوير آلية السفك من خلال الإبداع المستمر في إنتاج أسلحة الدمار الحيّزيّ والشامل، وابتكار أساليب التصفية لكل يمثل له آخر.
ولعل هذا الأصل إن كان هو كذلك هو الذي يغذي صفة التوحش داخل الإنسان ويحفظ لها الاستمرارية
والصعود ويحولها إلى غريزة تتحرك في ضوئها الطبيعة الإنسانية.
وهناك أمر آخر هو إمكانية تخفي هذا الأصل من خلال إجراءين هما: فلسفة الحكم على طبيعة الأشياء والمسانِد الذرائعي.
فالحكم على طبيعة الأشياء غالباً ما يخضع «لآلية النسبية «؛ أي ما أراه باطلاً قد يراه غيري حقاً، وهذا الاختلاف المحمول بالنسبية عادة ما يكون مرجعه اختلاف الأنظمة العقائدية والتاريخية والاجتماعية والثقافية بين الشعوب.
ثم يأتي المُسانِد الذرائعي ليلغي الضرورة الأخلاقية من خلال إحلال قيمة المصلحة بدلاً من القيمة الأخلاقية وبذلك تتحول المصلحة إلى قيمة ثابتة فوق القانون وحقوق الإنسان.
ولا شك أن جذرية الذرائعية تتحرك وفق أيديولوجية ممثلة في ماهية المصلحة وغايتها، وبذلك نجد أنفسنا أمام عبث متعمد بضابط المعاير أو التشريع المُمول له، هذا العبث هو الذي يحول التوحش الإنساني إلى توصيفات ذرائعية تمنحه طبيعة الثقافة والتحضُّر وتُضفي عليه خلفية حقوقية.
وتلك الحيّل الإجرائية الداعمة للتوحش الإنساني هي التي مكّنت القوى العظمى من جرائم الإبادات الجماعية دون مساءلة جادة لمرتكبيها أو محاكمة قانونية منصفّة خارج العمود التاريخي.
وما يحدث اليوم لمضايا والمقدادية من إبادة جماعية بأساليب التجويع والقتل هما صورة من صور التوحش الإنساني تُضاف إلى حكايات التاريخ في هذا المجال، والتي تجعلنا نردد دوماً «ما أشبه الليلة بالبارحة».
فهذه مضايا والمقدادية تُصفيان جوعاً وقتلاً دون خطيئة أمام مرأى ومسمع العالم كله ومنظمات حقوق الإنسان التي لا دور لها سوى التنديد والمطالبة باحترام حق الإنسان في الحياة الكريمة، وكأننا نقف اليوم في خضم كل مواثيق حقوق الإنسان أمام جاهلية إنسانية جديدة تستعيد بالإحياء تاريخ التوحش الجاهلي.
إن ما يحدث اليوم في مضايا سوريا ومقدادية العراق يثبت أن الضعفاء عندما يصطدمون بمصالح الأقوياء لا حقوق لهم، وأن الحق يملكه الأقوى، وهو ذاته المنطق الذي كان يعتمد عليه منطق التوحش في جاهلية الإنسان الأولى.
إن ما يحدث في مضايا والمقدادية يثبت أن مصالح الكبار في العالم تجوّز لهم إحياء تاريخ التوحش الإنساني لكن هذه المرة بذرائع مختلفة حتى تستر الوجه القبيح للتوحش، ووسائل مختلفة أشد فتكاً، وهو اشتداد طبيعي فكلما اشتدّ توحش الإنسان اشتدّت الوسائل المنفّذة لذلك التوحش.
أضف إلى الاشتراطية السابقية اشتراطية أخرى محتواها كلما اشتدّ تحضر الإنسان اشتّد توحشه، وكأن التوحش جزء من الطبيعة الإنسانية يتغذى صعوده وقوته كلما زاد علم الإنسان وثقافته.
فأعظم الدول علماً وحضارة ونهضة هي من أنتجت أشد الأسلحة فتكاً، ولا تزال في سباق محموم في مجال المنافسة في أيهم أعظم ابتكاراً لأسلحة الموت بدءاً من المخدرات وصولاً للقنابل النووية والعنقودية والجرثومية والقائمة تطول في هذه المنافسة عنواناً وتوصيفاً.
وتلك الدول ذاتها هي التي تسببت ولا تزال في أعظم مجازر البشرية عن طريق تلك الأسلحة.
إن أسلوب «الإبادة الجماعية» من أبشع صور التوحش الإنساني؛ لأنه يستبيح حق الجماعة في الحياة لا يفرق بين النساء والأطفال والشيوخ والرجال، كما أنه حافز سلبيّ لنشر الانتقام والكره بين الإنسان وأخيه الإنسان.
إن منظمات حقوق الإنسان والمؤسسات والهيئات العالمية التي تقف اليوم متفرجة على الإبادة الجماعية التي يرتكبها الجيش السوري والروسي وحزب الله في قرى سوريا بما فيها مضايا، والإبادة الجماعية للمقدادية على يدّ المليشيات الشيعية في العراق، هي نفسها التي لم تحرك ساكناً وروسيا ترتكب مجازر الإبادة الجماعية ضد المسلمين في الشيشان، والإبادة الجماعية التي ارتكبتها القوات الأمريكية عندما دخلت العراق، والإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل في مخيمات صبرا وشتيلا ودير الزور.
إن ثقافة التوحش التي تُبرز من خلال الإبادة الجماعية ليست تاريخاً مرتبطاً بقصة هيروشيما وناجازاكي والقنابل النووية التي راح ضحيتها مئة وأربعون ألف مواطن ياباني في هيروشيما، وثمانون ألف في ناجازاكي، غير ما ترتب على إلقاء تلك القنابل من آثار ظهرت فيما بعد من خلال انتشار مرض السرطان والتسمم الإشعاعي في من بقي حياً، بل هي قصة بدأت من الإبادات الجماعية التي ارتكبها الأوروبيون الأوائل الذي استعمروا أمريكا في حق الهنود الحمر، فكان حرق المدن أسهل طرق الإبادة الجماعية إضافة إلى الحرب الجرثومية.
وهو ما جعل أسلوب الإبادة الجماعية أسلوباً معتمداً في السياسة الأمريكية لتصفية أعدائها.
وهذا الأسلوب ليس قاصراً على أمريكا وروسيا التي أبادت في عهد الفاشي النازي ستالين أكثر من خمسة ملايين مسلم، وما أشبه الإبادة الجماعية للسوريين المسالمين اليوم في ريف حلب ومضايا وغيرها من القرى السورية على يدّ القوات الروسية الفاشية بمجازرها البارحة في الشيشان وأفغانستان، إنها الحقيقة الناصعة التي تؤكد أن كلما ترقى الإنسان علمياً وحضارياً قوي داخله الكائن المتوحش الذي يستبيح كل قيم الحياة وحقوق الآخر.
بل كل الدول العظمى التي تتشدق بحقوق الإنسان وتندد بجرائم ومجازر الإرهابيين، ليس منها رشيد يقول لها انظري إلى مرآة نفسك قبل محاكمة غيرك.
وتدخل فرنسا التاريخ الأسود للإبادات الجماعية التي نراها اليوم تتباكى على مضايا ويديها ملطختين بدماء السوريين على كل شبر في سوريا، فما زال التاريخ بعد سبعين عاماً يتذكّر مجازرها في ملعب فليب فيل في الجزائر التي راح ضحيتها أكثر من عشرة آلاف جزائري.
ومجزرة سطيف التي ذهب ضحيتها 45 ألف جزائري على يد الجيش الفرنسي والتي قال عنها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في الذكرى السبعين لهذه المجزرة إنها «ما زالت محفورة في الذاكرة الجماعية الوطنية».
ولا تقل الإبادة الجماعية التي ارتكبها العثمانيون في حق الأرمن بشاعة والتي راح ضحيتها مليون أرماني.
وأسلوب سياسة الإبادة الجماعية نجده أيضاً عند إسماعيل الأول الصفوي الذي أقام مذابح جماعية لطائفة السنّة في تبريز وبغداد ونبش قبر الأمام أبي حنيفة النعماني وأقام بدلاً منه مزاراً للشيعة، ومجزرة الأحواز وشيراز التي راح ضحيتها أكثر من عشرة الآلاف مسلم سنيّ، ومذبحة مرو التي راح ضحيتها أحد عشر ألف قتيلاً من طائفة السنّة.
إن ما تقوم به «المليشيات الشيعية العراقية» في المقدادية تحت مرأى ومسمع من الحكومة العراقية ليس بمستغرب على الشيعة المتطرفين، فهم على تاريخ جدهم يسيرون.
ولا ننسى الإبادة الجماعية التي ارتكبها صدام حسين في حق الأكراد في حلبجة والتي ما زال أنينها يتردد في تاريخ الأكراد حتى اليوم.
إن الحقيقة الناصعة اليوم والعالم كله يقف عاجزاً من إنقاذ مضايا والمقدادية تقول أن لا مواثيق حقوق الإنسان ولا تنديدات المؤسسات والهيئات العالمية تستطيع رفع مضرة واضحة البيان عن الضعفاء عندما لا يمثلون معادلة ترجيح مصلحة للأقوياء، وأن الظالم إذا توافق مع مصلحة الأقوياء يصبح هو الأحق بالنصرة من الضعفاء، وللضعفاء ربٌ ينصرهم، و«رحمتك يا رب السماء».