د. عبدالحق عزوزي
{وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} ؛ {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}؛ {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}؛ {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ}؛ {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} ؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}.
هذه الكليات الربانية الخالدة، وما يتسق معها من القرآن الكريم، وباقي كتب الله وصحفه، مثل قول الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ}.. لهي مرتكزات جامعات لتأسيس منهج راسخ لتعايش بشري آمن في وطنهم العالمي الكبير، وأقاليمه المبثوثة في الأرض.
والبشرية اليوم وللأسف ليست على شيء يُحمَدُ لها أو يُسعِدُها في أمنها واستقرارها.. ولن يتغير حالها إلى ما يلبي تحدياتها وطموحات أجيالها.. إلا بالتعاون والتدافع الإيجابي بينها.. وتفعيل مكنونات الخير والفضيلة في مخزونها الوجداني.. من أجل عمارة الأرض.. وإقامة العدل.. وصون كرامة الإنسان وسلامة البيئة.. وتوفير الاستقرار والتنمية والازدهار.. وتحقيق تعايش بشري آمن.
وهاته الحقائق لا يمكن تجليها إلا بالحوار؛ وهذا الحوار يكون بالمراجعات الفكرية من كتابات معتمدة، وملتقيات هادفة، وقمم بناءة ومنتديات علمية... ولكن البعض للأسف بدأ يضع علامات استفهام عن جدوى الملتقيات الفكرية التي ننظمها أو تلك التي نشارك فيها. وهذا وأيم الله نوع من التخلف الفكري الذي يجب الرد عليه. تصور معي لو لم تكن قمة باريس المناخية الأخيرة بذريعة فشل سلفيها قمة كيوتو 1997 وقمة كوبنهاغن 2009، تصور معي أنه لو لم يكن هناك صبر من ذوي النوايا الحسنة على الصعيد العالمي لتتفق دول المعمور على قرارات تاريخية، أين سنصل بالكرة الأرضية التي خلقها الله لنا أمنا وأمانا لنسلك منها سبلا فجاجا ولنمشي في مناكبها ونأكل من رزقها؟ كثيرون هم الذين تكهنوا مثلا بفشل قمة باريس التي اجتمع فيها نحو مائتي زعيم عالمي من 30 نوفمبر إلى 11 ديسمبر 2015، ولكن المفاجئة الكبرى هي هذا الشعور العالمي بالمسؤولية تجاه كوكبنا الذي تمخض عنه مصادقة الدول على اتفاقية عالمية للحد من التغيير المناخي. وهذا الشعور كان نتيجة مخاض صعب وطول نفس من منظمات دولية وجمعيات لا حكومية ودول وأفراد ذوي النفوذ جاهدوا ليقولوا للجميع إنكم في موعد لا يغتفر مع التاريخ، ولا يمكن للأجيال المقبلة أن تنساه لكم إذا أنتم لم تأخذوا قرارات شجاعة وحاسمة.
إن الحقيقة لا تتجلى إلا بالتمحيص والمراجعة والبرهان، وكل ما كان قد كتبه برنارد لويس وصامويل هانتنغتون مثلا في مجال الحضارات هي نظريات وأقاويل وشبه كتبت بالمداد، ودفع الشبه وقوادح الأدلة الأخلاقية ترد بالبراهين العقلية والحوار الرصين بعيدا عن اللجاج والمكابرة واعتماد الآراء المشهورة من غير تمحيص، وهذه المغالطات هي في نظري الحافز الأول على التأليف فيه والإسهام في تفعيل آلياته خلافا لمن يدعي أن عقد المؤتمرات أو الكتابة فيه مضيعة للوقت، فالحق يضاد الخطأ ولا يوافقه ويشهد ضده، فكيف إذن يمكن الرد على ذلك الجامعي الفرنسي أو نغني فكر أولئك الطلبة الأوروبيين وهم يدرسون نظريات العلاقات الدولية إذا لم نغن الساحة الفكرية بمنتوجات تكشف عن مواطن الزلل في الفهم والتحريف للوقائع لمن لا يدركون مراميها، فأخطاء الفكر وكبواته وتصوره في إدراك الكثير مما هو خارج عن أفقه لا يقابل إلا بالفهم والإدراك والمعرفة العقلية الحصيفة المتحرية للحق، فلا بد من إخراجها إلى الواقع تعبيرا وكتابة وتفعيلا، وهذا مظهر صحي للفكر في القديم والحديث، وهذه هي الثقافة المولدة للحوار خلافا لبعض المؤتمرات والكتابات التي لا تنتهج الموضوعية والمنهجية العلمية في الفكر والإنتاج، فهي صناعة ضائعة غير محكمة القواعد والأصول. إذ من المعلوم كما يكتب الأستاذ محمد الكتاني: «أن المسائل التي يختلف فيها الناس إما أن تكون مما يتعلق بالمعتقدات، أو مما يتعلق بالاجتماعات والعلاقات السياسية والحقوق المقررة. وإما أن تتعلق بالمعارف العلمية المتصلة بالطبيعة والمادة، وإما أن تتعلق بالفلسفات والأنظار الفلسفية. وإما أن تتعلق بالماضي وتراثه، والتاريخ وأحداثه. ومن المعلوم أن لكل صنف من المسائل منهجه الملائم، فهناك المنهج الاستدلالي العقلي، وهناك المنهج التجريبي الطبيعي، وهناك المنهج الاستردادي التاريخي فإذا كان موضوع الحوار تاريخيا كان المنهج التاريخي هو مرجعيته، بما فيه من آليات التوثيق والنقد للنصوص وفقهها، وتمحيص الروايات ومقارنتها، وإذا كان الموضوع دينيا أو اعتقادياً، وجب الاعتماد فيه على المنهج الذي يلائم المسألة المطروحة للحوار، فإذا كانت ترجع إلى الاستدلال العقلي، اعتمد عليه، وإن كانت ترجع إلى فهم النصوص اعتمد فقه النص لغة وسياقا».
ولا حل للمعضلات الدولية بما فيها تلك المتعلقة بالتعايش بين المسلمين والغرب اليوم إلا بتغليب منطق الحق والإنصاف على منطق القوة والإرهاب، وسواء في علاقات الشعوب والدول بعضها بالبعض، أو في علاقات الفئات الاجتماعية ذات التعددية العرقية والدينية في البلد الواحد.
في هذه الظرفية العالمية العصبية كما أجاد الأستاذ محمد الكتاني في الوصف، وجد العالم الإسلامي نفسه في صميم الأزمة الحضارية. فهو مهدد في وجوده الديني، وهويات شعوبه الثقافية. ومحكوم بشتى الإكراهات الدولية، والتجاذبات الاستقطابية، والإسلام الذي هو قوام هويته ورصيده الحضاري ومصدر اعتزازه، متهم في الذهنية الغربية بكونه دين التطرف والإقصاء، والمصدر الرئيسي لحركات الإرهاب في العالم، وهو ما بدأنا نراه بعد أحداث باريس الأخيرة.
لقد أخذت ردود الفعل لدى المسلمين تجاه كل أشكال العدوان على ديارهم. والضغوط الاقتصادية على شعوبهم، والافتراء على دينهم مظاهر شتى. منها انبثاق الحركات الأصولية، والعنف ضد الأنظمة الوطنية المنقادة، أو الملاينة للهيمنة الغربية، لا سيما بعد أن أصبحت هذه الهيمنة تجسدها القطبية العالمية. وكان رد الفعل واضحا في الموقف الأصولي، الذي انتهى إلى إنشاء «قاعدة» لزعزعة الأمن، في العالم بنشر خلايا الإرهاب، وتدمير المنشآت واغتيال الأبرياء داخل المجتمعات الغربية أو الإسلامية على حد سواء. وذلك كله باسم «الإسلام». ولا شك في أن التداعيات التي أفرزتها أحداث إرهابية مروعة في عدة جهات من العالم، فرضت على الحكومات الوطنية في البلدان الإسلامية الأخذ بمنطق الهاجس الأمني. فضلا عن الدول الغربية التي طالها الإرهاب وغدا كابوسا يهيمن على حياتها.
ومهما بلغت وسائل حفظ الأمن، والقضاء على خلايا الإرهاب، وتجفيف ينابيعه فإنها لا تعد سوى «مواجهة ظرفية» محدودة الفعالية، ما دامت لم تعتمد «ثقافة الحوار» وتفعيل القيم الدينية في ضمائر المسلمين. ولم تنطلق من إشاعة الصورة الصحيحة عن الإسلام، ومن التعامل مع قيمه كمفاتيح لقلوب معتنقيه، إذ من الحقائق التاريخية أنه لا يمكن للعالم الإسلامي القيام بأي نهضة وتنمية وإصلاح من خارج الإسلام نفسه، الذي يظل المصدر الروحي الأساسي للجماهير الإسلامية.
فلا غرو إذن انطلاقا من هاته الحقائق، وردا على التساؤل الذي طرحناه في بداية المقالة، أن المشكل يكمن في نوعية وقيمة القمم والملتقيات التي ننظمها، إذ تغيب عنها في بعض الأحيان المنهجية، أو تبقى نتائجها، إذا لم تكن في تواصل مع الهيئات الدولية واللوبيات الفكرية والإعلامية العالمية، حبيسة الرفوف يغمر توصياتها التراب بعد أن يكون المنظمون قد جلبوا لها الملايين من الدعومات المالية. هاته المنتديات الفكرية ضرورة، ولا غنى عنها اليوم... يبقى فقط ضرورة إصلاح ما اعوج فيها من طريقة التنظيم والتنظير، وسبل الإيصال إلى نظيراتها الدولية للتأثير على مجريات الأحداث.