د. عبدالحق عزوزي
سبق وأن حذرت مع آخرين من خطر انعدام الأمن في ليبيا والصمت الدولي وسبق وأن كتبت أن تحول الجنوب الليبي إلى وكر للإرهابيين وقاعدة خلفية لهم سيجعل المنطقة كلها في خطر.... وحسب التقارير
الاستخباراتية والمعلوماتية التي تتناقلها الأوساط المطلعة فإن هناك نقاط ترابط بين داعش ومجموعات كانت مرتبطة حتى الآن بالقاعدة في منطقة الساحل والصحراء، وخصوصاً في درنة وليبيا حيث يحاول داعش الإمساك بزمام الأمور، وهي المنطقة التي كان يوجد فيها بلمختار، أحد أبرز قياديي القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وأيضاً إياد أغ غالي، زعيم جماعة أنصار الدين... والمشكلة الكبرى أن هاته الجماعات في تطور مستمر ولها علاقة بما يقع في ليبيا التي أصبحت دولة ضعيفة جداً، حيث هناك غموض سياسي خطير ليتنازع الشرعية السياسية في البلدة برلمانان وحكومتان في بلاد تسبح في غيابات ما يشبه الحرب الأهلية؛ كما أن المجموعة الدولية لم تكترث كثيراً لما يمكن أن يتمخض عليه هذا التراكم الإرهابي في هاته المنطقة، تماماً كما لم تكترث في البداية إلى تمزيق النسيج الاجتماعي والوطني اللاحم في العراق بعد سقوط صدام حيث تجيشت الغرائز العصبوية (الطائفية والمذهبية والعرقية والعشائرية) وتشكّلت مؤسسات الدولة بناء على نظام الاختصاص (المحاصصة) الطائفي والعرقي.... ومن جوف البنية الطائفية والمذهبية وغياب القشرة الحامية للدولة، نمت الفيروسات الجهادية التكفيرية كداعش وغيرها وانتقل نطاقها بسرعة البرق، سخر للقضاء عليها أزيد من أربعين دولة في تحالف دولي لم يسبق له مثيل حتى في الحربين العالميتين، والأدهى من ذلك أن هذا التحالف لم يستطع لحد الساعة القضاء عليها وهي في زيادة مستمرة.... وسبق وأن كتبت عن التجربة التونسية عندما انتخب الرئيس الجديد، داعيا الله أن يحميها من العين الحسود أن أفضل درس يمكن أن نستقيه من التجربة التونسية هو أن التعاقد على مشروع مجتمعي هو أساس النظام السياسي. فلا يكفي نظام سياسي أن يقوم على أساس دستوري، وأن يشهد زيادة لا حصرية في عدد الأحزاب، وأن يجسّد ذكاءه في النظام التمثيلي والنيابي.... فلحظة البناء الديمقراطي تستلزم ترجمة تلك النوايا الحسنة والأدوات السياسية السليمة والإجراءات القانونية إلى نظام للمجتمع، وإلى حياة سياسية قارة تتحول فيها سلطة الدولة إلى ميدان لمنافسة حرة ونزيهة وشريفة بين كل القوى والجماعات السياسية المتنوعة،..... والتجربة التونسية اليوم في بدايتها، وهي في مرحلة الانتقال السياسي وليس تجذير الديمقراطية لأن ذلك يتطلب وقتاً، وتدخل فاعلين لم تتصورهم قط أدبيات العلوم السياسية المقارنة (في تجارب أمريكااللاتينية وأوروبا الشرقية والغربية) من أمثال داعش وهم إرهابيون متنقلون لا وطن لهم ولا دين ولا ملة، منذر بخراب الأوطان والمجتمعات. فماذا يقع عندما يتدخل هؤلاء؟...
ثم أخيراً تم التوقيع منذ أيام في منتجع الصخيرات المغربية وبوساطة مغربية قلَّ نظيرها على اتفاق بين كل الأطراف الليبية، التي وافقت على شكل الاتفاق المعلن من قبل المنظمة الأممية... وينص هذا الاتفاق التاريخي على تشكيل حكومة وفاق وطني تقود مرحلة انتقالية تنتهي بإجراءات تشريعية بعد عام، كما ينص على توسيع المجلس الرئاسي ليتكون من تسعة أشخاص، رئيس وخمسة نواب وثلاثة وزراء. كما ينص هذا الاتفاق على أن السلطة تتكون من ثلاث مؤسسات محورية وهي مجلس النواب ويمثّل السلطة التشريعية، ومجلس الدولة وهو على شاكلة غرفة برلمانية استشارية ومجلس رئاسي، وتنتقل كافة صلاحيات المناصب العسكرية والمدنية والأمنية العليا كما هو منصوص عليه في القوانين والتشريعات الليبية النافذة إلى المجلس الرئاسي فور توقيع الاتفاق، كما أن الإجماع قاعدة ضرورية لاتخاذ أي قرار.
الزعيم الليبي المقتول معمر القذافي ترك بلداً بدون مؤسسات سياسية حقيقية كالبرلمان والأحزاب السياسية والنقابات وهي رئة أية حياة سياسية، أي ترك دولة بدون ممارسة وتجربة سياسية حيوية ولو تحت نظام سلطوي بائد على خلاف تونس ومصر حيث إن الغطاء السلطوي لممارسة الحكم، سمح موازاة معه بميلاد نخبة سياسية متمرسة من أهل الحل والعقد الذين يبنون اليوم مؤسسات ويسهرون على تسيير الشأن العام. الذي تركه معمر القذافي في ليبيا كان بمثابة خراب سياسي مبني على خزعبلات وقواعد لا صلة لها بأي منطق، واستطاع أن يدوم لعقود بفضل عائدات الثورة البترولية. لذا نفهم تداعيات سقوط هذا النظام منذ سنوات في هذا البلد الحبيب قليل السكان مقارنة مع مصر، ولكن غني بموارده الطبيعية التي لو استغلت عقلانياً وديمقراطياً وتنموياً لأضحت ليبيا منذ سقوط القذافي بفضل ثرواتها سويسرا المغرب العربي.. ولكن مع هذا الإرث المقيت كثرت الفصائل المسلحة، فأحياء العاصمة طرابلس مثلاً تخضع لسبعة فصائل مسلحة غير متجانسة، تولي ولاءً مطلقاً لقاداتها أكثر من ولائها للدولة وهنا انهيار القشرة الحامية للدولة حيث إن كراسي الحكم المتدخلة في شؤون البلاد والعباد تكثر ورؤساؤها يتقوون بالمريدين والأتباع المسلحين حتى النخاع، وتكبر مصالحهم الضيقة والآنية بما فيها المادية منها فيقتلون ويقتلون على مواطن النفوذ والاغتناء وبالأخص على الثروات النفطية للبلاد؛ كما أن الحالة الصعبة للمنطقة بما فيها الموقع الجغرافي لليبيا وشاسعة حدوده، وسهولة نقل الأسلحة بجميع أنواعها وشرائها كما يشتري الإنسان الخبز من المخبزة، نمى الموالين لتنظيم داعش، إذ تشير التقارير إلى استقرار 3000 مقاتل داعشي في مدينة سرت الساحلية لوحدها، حيث خربوا البيوتات والمساكن ودمروا الفنادق وأعدموا البشر وقذفوا المطارات والفنادق والمطاعم على مرأى ومسمع من العالم.
الاتفاق الآن قد وقع. والأطراف المعنية كلها قد شاركت في هذا الموعد الحساس مع التاريخ، وليبيا ستمر اليوم في مرحلة انتقالية حساسة ومصيرية؛ حساسة لأن الأوضاع كما أسلفت في ليبيا معقّدة، وصوت السلاح يصعب إيقافه مع كثرة الميلشيات وفقدان الأهل والأولاد في حروب جنونية بين إخوة الأمس..... والثأر والفوضى واللا أمن سمة أي مجتمع عاش ويعيش في حروب طائفية أو أهلية أي بين سكان البلد الواحد، ناهيك عن تواجد أعضاء من الميلشيات أتوا من أمصار متعددة؛ ومصيرية لأنه إذا لم يضع الليبيون بعد كل هذا المجهود الحواري المضني والإجماع اللا مسبوق، القاطرة على سكة العقلانية ونكران الذات وتغليب مصلحة الدولة على المصالح الضيقة فستصل ليبيا إلى مرحلة الدمار الشامل.
علماء الانتقال الديمقراطي يُسمون المرحلة التي تمر منها ليبيا اليوم بالمرحلة الانتقالية وهي مرحلة ما قبل تثبيت وتجذير الديمقراطية، أي أنها لا تعني البتة انتهاء مرحلة اللا أمن والفوضى والانهيار السياسي، إذ قد تستمر الدولة في هذا الجحيم السياسي بل قد تصل إلى سعير أشد فتكاً وأشد سلطوية وأشد انفلاتاً إذا فقد الوعي السياسي الذي يبطن مصالح الدولة ومصالح الشعب فوق كل مصلحة... عار ثم عار على إخوة الأمس الذين ضحوا بالغالي والنفيس للقضاء على أبخس نظام دكتاتوري، أن يقتتلوا فيما بينهم لأسباب فارغة، لو طرحوها على ميزان العقل والتاريخ لوجدوها ترهات جنونية من عند أنفسهم. دولة ليبيا هي لجميع الليبيين وتسييرها لا يجب أن يكون إلا باسم الشرعية الواحدة وهي شرعية ليبيا الواحدة تجمع بين أبنائها اللغة والدين والتاريخ والمصير المشترك؛ من حضر اتفاقية الصخيرات يخرج بقناعة أن الليبيين ملوا وملوا الوضع القائم. ومع تنامي هذا الوعي في العقول والأفئدة، يجب على الفاعلين الكبار ذوي الاحترام والإجماع السياسي والوطني قيادة سفينة المرحلة ببوصلة جديدة، وأنا على يقين أنها إذا نجحت ستكون مرشحة لنيْل جائزة نوبل للسلام من هنا سنتين على شاكلة الرباعي التونسي.