د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
يبدو الحديث عن دوافع روسيا في أن ترمي بكل ثقلها في أتون الحرب في سوريا إنقاذاً للنظام من نوع تحصيل الحاصل، فلولا وجود مصلحة قوية لما فعلت ذلك. لكن ليس بالضرورة من أجل مخزون النفط والغاز قبالة الساحل السوري، إلّا إذا أغفلنا الدافع المتأصّل تاريخياً. فقد كانت أطماع روسيا في الوصول إلى المياه الدافئة (المحيط الهندي) معروفة منذ عهد القياصرة.
ثُمٌ لاحت للقيادة السوفييتية في سبعينيات القرن الماضي فرصة مواتية للقرب من تحقيق الحلم، فاستجابت لطلب الانقلابيين الشيوعيين في أفغانستان بالتدخل العسكري من أجل معاونتهم في قتال الأحزاب الإسلامية التي ثارت عليهم. ودام احتلال السوفييت عشرة أعوام، واجهوا خلالها مقاومة عنيفة من المقاتلين الأفغان والأجانب، انتهت بهزيمتهم وخروجهم من أفغانستان عام 1989. وبالطبع فإن الهزيمة لم تمحُ الحلم الإمبراطوري من مخيّلة الروس. كلٌ ما في الأمر أن توترات الحرب الباردة - وخاصة سباق التسلح الذي أثاره الرئيس الأمريكي (ريجان) في الثمانينيات - أنهكت الاقتصاد السوفييتي. وقد تولّى رئاسة الاتحاد السوفيتي من 1987 حتى انهياره في 1991 (جورباتشوف)، ثمً تولّى (يلتسين) حكم روسيا حتى عام 2000، وكلٌّ منهما كان أكثر تفاهماً وليونة مع الغرب، وطويت بهما صفحة الحرب الباردة (حتى حين)! فمنذ عام 2000 أصبح (فلاديمير بوتين) على رأس القيادة الروسية؛ مرة رئيس وزراء، ومرة رئيس جمهورية- كما هو الآن. وقد عمل قبل ذلك في جهاز المخابرات، ثم مع عمدة بيترسبورج، ثم مع يلتسين. وهو رجل رياضي، قويّ الشكيمه ومحبّ للتفرّد باتخاذ القرار، كما أنه عمليٌّ ونهّازٌ للفرص، وهي صفات تلازم صاحب الطموح القوميّ- مثل بوتين. فهو يرى أن هدفه الاستراتيجي هو إحياء دور روسيا كدولة عظمى وتقويتها اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وضمان سلامتها من أخطار محتملة. وكان يرى في تمدّد حلف الأطلسي بضمّ بعض دول أوروبا الشرقية ونشر أمريكا قواعد صاروخية فيها تهديداً لأمن ومكانة روسيا. وربما اعتبر تولّى المعارضة الميّالة للغرب الحكم في أوكرانيا عام 2014 نذير خطر، فدعّم تمرّد السكان الروس في الجزء الشرقيّ منها، واحتلّ شبه جزيرة القرم ليضمن السيادة في البحر الأسود، مستغلّاً ظروف اهتمام العالم بالوضع في سوريا وتردّد السياسة الأمريكية. لكن ذلك لم يكن كافياً لتحقيق حلم روسيا القديم لأنها لا تزال بعيدة عن البحار الدافئة الواسعة التي تجول فيها الأساطيل وتتقاطع فيها خطوط التجارة الدولية. وربما كانت مطمئنة إلى علاقتها التي كانت دائماً طيبة مع سوريا منذ عشرات السنين - حيث كان نظام الحكم السوري محسوباً على اليسار المناهض للنفوذ الغربي وسائراً على نهج رأسمالية الدولة (تحت غطاء الاشتراكية)، وكانت سوريا إلى جانب ذلك موقع النفوذ الوحيد المتبقّى لروسيا في الشرق الأوسط بعد طردلسادات للخبراء الروس عام 1972، ممّا أتاح لأسطولها البحري إمكانية استخدام الموانئ السورية. وعندما اشتعلت شرارة الثورة السورية في 2011، كان موقف روسيا منسجماً مع واقع تلك العلاقة فأيّدت النظام السوري ودعّمته بالسلاح. ولم يمنعها ذلك من المشاركة في جهود الأمم المتحدة الرامية للتوصّل إلى حلّ سلمي للأزمة السورية، بل وممارسة الضغط الدبلوماسي من جانبها في اتجاه التفاوض بين حكومة بشار الأسد وبين ممثّلي جبهات المعارضة الداخلية المتهادنة مع النظام والمعارضة الثائرة ضده، على أمل عودة السلام بقليل من الخسائر للنظام وضمان بقائه في السلطة. وعلى الرغم من بروز داعش وتمدّدها على الأرض السورية منذ عام 2013 فإن روسيا لم تتدخل عسكرياً لصالح النظام. وربما يرجع هذا (التعقّل) إلى تفاهم مع الولايات المتحدة بأن لا يؤثّر دعم الأخيرة للمعارضة السورية المسلحة ولا قصف طيران التحالف لمعسكرات داعش في ميزان القوى بين المعارضة وجيش النظام ومن معه من الميليشيات، كما أن (بوتين) كان مهتمّاً بوضع أوكرانيا واحتلال القرم. على أن الأمور سارت على غير ما توقعته القيادة الروسية، فخسائر جيش النظام والميليشيات تتفاقم، ومع إنهاكها يزداد الوضع سوءاً وينذر إمّا بانهيار النظام وانتقال السلطة إلى هيئة حكم مختلفة لن تحفظ الودّ السابق لروسيا، أو بتدخّل إيرانيّ مكثف لإنقاذ نظام الأسد وبسط الهيمنة على سوريا، وهذا يجعلها جزءاً من إمبراطورية إيرانية لا مكان فيها لنفوذ روسيّ . فالدولتان (روسيا وإيران) وإن اتفقتا على الاستراتيجية - التي هي حماية نظام الأسد - فإنهما تختلفان في الغاية، وهي الانفراد بالنفوذ في سوريا. وهاجس فقدان الحلم (الدافئ) هو ما يؤرّق روسيا بقيادة بوتين أكثر من فقدان مخزون النفط والغاز في سوريا ومياهها الإقليمية. فروسيا التي تموّل أوروبا بالغاز، وأكبر منتج للنفط في العالم لا تحتاج لذلك. ولهذا السبب انتهزت روسيا ظروف تمدّد داعش بسوريا وحنَق الأوروبيين من إرهابها الذي أصابهم في ديارهم، وأرادت فرض وجودها وتأكيد دورها في معالجة الوضع السوري من خلال التدخل الجوّيّ العنيف منذ 30 سبتمبر 2015 الذي مهّدت له ببناء قاعدة جوية ضخمة في اللاذقية، والذي لم تميّز فيه بين داعش والنصرة وبين جبهات المعارضة المسلحة المعتدلة، لأنها كانت تنظر لجميع الجبهات من زاوية واحدة، وهي أنها تحارب النظام السوري الذي تريد أن تحميه. وفى سبيذلك لا تكترث بحماية المدنيين، لدرجة أن منظمة العفو الدولية اتهمتها بارتكاب جرائم حرب. ولم يُخفِ الرئيس بوتين نواياه، بل أعلن أنه سيستمرّ في القتال مع جيش الأسد ما دام هذا الجيش يقاتل، كما هدّد باستخدام أسلحة أخرى. وكل هذا التصعيد في التدخل العسكري وفي التصريحات ينبئ بالإصرار على أن تكون روسيا صاحبة قرار في أيّ تسوية للقضية السورية، لتضمن لنفسها تحقيق الحلم الإمبراطوري بكسب (سباق السباحة) في المياه الدافئة. ولكن هل ستضمن ذلك حقاً؟ ما كسبته حتى الآن هو عداوة الشعب السوري وكل جبهات المعارضة المسلحة - وخاصة المعتدلة، إلى جانب خصومة جارتها المقابلة لها على البحر الأسود: تركيا.