د. محمد عبدالله العوين
ربما يجد متابع الأحداث في العراق حيرة كبرى في مقاومة «داعش» التي انسحب الجيش العراقي من الموصل إبان رئاسة المالكي للحكومة وسلمها كعكة جاهزة للتنظيم الإرهابي بعدتها وعتادها فارا من مواجهة ستمائة داعشي، وهدد من خلالها بغداد وتمدد إلى شمالي العراق مقتربا من المحافظات الكردية ومهجرا اليزيديين والمسيحيين وغيرهم؛ وكأن إهداء الموصل له من حكومة المالكي دعوة غير مباشرة للتمدد وللهيمنة على العراق. وهو الشأن نفسه بالنسبة لبشار الأسد الذي أهدى إلى داعش من قبل الرقة لكي تكون عاصمة خلافته المزعومة ومنسحباً له عن عشرات المراكز العسكرية والقرى والمدن حتى أوشك أن يهيمن على نصف سوريا في العامين الماضيين.
وتكمن الحيرة من موقف نظامي العراق وسوريا اللذين يدَّعيان حرب داعش؛ بينما تشير الوقائع إلى أن هذا التنظيم يجد الطريق مفتوحاً له كي يتمدد ويعثو في الأرض فسادا وقتلا وترويعا؛ ثم يزحف الحشد الشعبي مسنودا بالجيش العراقي ليبدأ مواجهات ساخنة مع التنظيم ويضطر حينها إلى الانسحاب من المحافظات والقرى تاركاً الفرصة للحشد وللجيش كي يكمل ما بدأه من تدمير وتخريب وقتل وتعذيب تحت حجة مطاردة التنظيم واجتثاثه!
والمحصلة النهائية من عملية الكر والفر بين داعش والحشد والجيش العراق وجيش بشار إيقاع أكبر قدر من التخريب والتدمير والتصفية والتعذيب والتجويع والحصار للعشائر والقبائل السنية، ومساواة المدن والقرى والمساجد بالأرض، بحيث تغدو غير صالحة لإعادة إعمارها من جديد أو مناسبة لعودة أهاليها الفارين منها، أو بعبارة أدق عودة من نجا من أهاليها من التصفية والسحل والتمثيل بجثثهم.
وتكاد تتضح الصورة التي تبدو متناقضة بين التنظيم الإرهابي ومن يدعي مقاومته من الحشد أو الجيش في العراق وسوريا؛ سواء كان هذا التناقض مقصوداً أو أنه نتيجة طبيعية لعدم تلاقي المصالح وافتراقها بعد أن تغول داعش في أطماعه وأراد أن يبتلع الطعم كله، وكان المقصود أن يتذوق جزءاً يسيراً من الطعم، أي أن يكون أداة لتحقيق الفوضى لا أن يكون الكاسب الوحيد من الفوضى!
أرادت إيران ومن خطط لـ«الفوضى الخلاقة» أن تستخدم التباينات الطائفية والعشائرية والإقليمية لتصفية طائفة وعرق هما المقصودان بإعادة رسم حدود المنطقة وخلق واقع جديد آخر مختلف يقوم على سيادة طائفة الشيعة الإثني عشرية وتفوق الدم الآري الفارسي الذي يستدعي إضعاف أو اجتثاث عرق آخر مناوئ له؛ هو العرق العربي.
وبدأ تنفيذ المؤامرة بخلق تنظيم «داعش» بإرهاب سني كاذب مزور يناهض طائفة الشيعة الإمامية في ظاهر خطابه ويستدعي بالضرورة حدوث ردة فعل غاضبة مقاومة من الطائفة نفسها، وتمثل ذلك في هبة الحشد الشعبي الإجرامية بفتوى علي السيستاني واستنفار الجيش العراقي مدعوماً بمن أسماهم أوباما بالمستشارين من الجيش الأمريكي الذين تجاوز عددهم ألف مستشار عسكري يديرون المعركة في مواجهة تنظيم هم ساعدوا على تكوينه أو رضوا بنشأته تحت أعينهم على الأقل، وتابعوا تمدده على مسافات تصل إلى ستمائة كيلو متر من دمشق إلى الحسكة أو إلى حلب دون أن يطلقوا على قوافله رصاصة واحدة!
لقد تأسس الحشد الشعبي تحت راية مقاومة داعش؛ لكنه لا يقاوم داعش فحسب؛ بل يتبع سياسة الأرض المحروقة؛ أي التدمير والتهجير والتصفية والنهب والانتقام من الطائفة السنية أيا كان انتماؤها التنظيمي أو العشائري، واللافتة المعلنة تتمثل في هذا المنشور الذي وزعه الحشد في المناطق السنية؛ كمحافظة صلاح الدين وعلى الأخص في تكريت؛ يقول « إنها حرب بلا أسرى، كل من يوجد في تكريت هو داعشي حمل السلاح أو لم يحمل»، ويقاس على تكريت غيرها من المدن والقرى السنية كالأنبار وديالى وبيجي والرمادي والفلوجة والدور والعلم والمقدادية.
الغاية التي انجلت بوضوح هي إعادة التغيير الديموغرافي بقتل وتهجير أكبر عدد من السنة وتدمير مدنهم وقراهم وإحلال وإبدال لهم بسكان جدد شيعة عرب وغير عرب من أفغانستان وباكستان وبنجلاديش وغيرها، ويساعد على ذلك المستشارون الأمريكيون في العراق، والروس في سوريا.