محمد عبد الرزاق القشعمي
لم ننسه رغم رحيله قبل أربع سنوات، إِذْ غادرنا - رحمه الله - في مطلع عام 1433هـ، فما زال عدد من أصدقائه وأبنائه يلتقون في منزله آخر يوم اثنين من كل شهر هجري - كما تعودوا التحلّق حوله في حياته - رحمه الله - بعد مغرب أيَّام الاثنين من كل أسبوع وعلى مدى أكثر من عشرين عاماً.
هذا مدخل لموضوع أحببت الكتابة عنه بعد اطلاعي على مقالة للأستاذ محمد علي قدس في جريدة الشرق. ففي عددها 1493 الصادر يوم الثلاثاء 25/3/1437هـ الموافق 5/1/2016م تحت عنوان: (عبد الكريم الجهيمان شيخ الليبراليين) وذكر «.. انه الكاتب والأديب والمؤرخ الذي عاش قرناً من الزمان ويزيد، الذي لم يكن أديباً تقليدياً، وقد عاش أجيالاً مختلفة كان فيها الصراع قائماً بين الأصالة والحداثة، كانت حكاياته وسردياته وكلماته تشكل فكر أديب منفتح متحرر، بما يؤكد ليبراليته، وهو التقدمي برؤاه والمتحرر بأفكاره. وقد عاش عالماً تقليدياً سطحياً بكل المقاييس..» إلى أن قال:».. تركت مجلته (أخبار الظهران) أثرها في ثقافة وتنوير أبناء المنطقة الشرقية، وذلك لأن الاستاذ الجهيمان - رحمه الله - كان يُعد من رواد التنوير والتربية ومن رجالات الأدب الرواد في المملكة، قادته أفكاره إلى السجن لكتابته مقالاً نادى فيه بضرورة تعليم المرأة، في وقت كان يرفض المجتمع تعليمها.. لم تشكل أفكاره وآراؤه التحريرية أي مصاعب أو عقبات، فهو لم يتورط في حياته بالتأثر أو اعتناقه أيديولوجية فكرية أو توجها سياسيا، ولم يكن يسارياً ولا محسوباً على المحافظين، لكنه كان ليبرالياً وطنياً ومن قدماء الليبراليين، كان الجهيمان صريحاً في مواجهة الأفكار البائدة التي لا تروق له ويتصدى لها بصرامة..». في الوقت الذي أشكر فيه الكاتب الكريم على هذه اللفتة التي تعد من لفتات الوفاء والتقدير لهذا العالم الذي ضحى بكثير من الجهد والمال من أجل أن يقول ما يعتقده ويراه صائباً منذ تفتحت مداركه ورآه العالم من حوله يسابق الزمن. صحيح أن سفره في وقت مبكر بصحبة أحد طلبته الذين كان يدرسهم وهو الأمير يزيد بن عبد الله بن عبد الرحمن وإخوته، وقد اختاره واصطفاه الأمير يزيد من بين الحاشية والمدرسين ليرافقه في سفراته المتعددة إلى لبنان ومصر والشام عام 1369هـ 1950م.
وفي العام التالي 1370هـ /1951 - 52م إلى باريس وبلجيكا وهولندا وبريطانيا وإيطاليا، وقد بقي مدة طويلة برفقة الأمير امتدت لأشهر ثمانية بين القاهرة والإسكندرية، وفي العام التالي لما يقارب العشرة أشهر في باريس والتي ألف عنها الجهيمان كتابه (ذكريات باريس) عام 1952م ولم يطبع الكتاب إلا بعد ثلاثين عاماً، وتجد فيه وصفاً دقيقاً للحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية من خلال زياراته للمراكز الثقافية والمتاحف ومتابعته لما يصدر وما يصل إليها باللغة العربية، وقال: إنه تعلم شيئاً من اللغة الفرنسية وحصل منها على رخصة قيادة السيارات الدولية، وتعرف على عدد من الأدباء ورجال الصحافة والسياسة العرب الذين كانوا يترددون على باريس وذكر منهم عديداً، وقد قدم لعمله هذا المغامر العراقي السائح (يونس بحري) الذي لجأ إلى باريس بعد هزيمة هتلر وانتهاء الحرب العالمية الثانية، وكان يصدر جريدة باسم (العرب) إضافة لقيامه بإمامة المسلمين في أحد المساجد الشهيرة بباريس نهاراً، وفي الليل يسلي رواد أحد المراقص بالغناء والطرب، وقد نشر في جريدته موضوعاً يعرض فيه عن كتاب الجهيمان ويشيد به ويقول في ختامه : (والحقيقة فإنَّ (ذكريات باريس) كتاب ستفخر به المكتبة العربية لما فيه من شعر ونثر هو السحر الحلال الذي ينسجم مع جمال عاصمة النور باريس). في 3 المحرم 1372هـ.
بعد عودته للمملكة من باريس مرض الأمير يزيد ثم توفي عندها طلب الجهيمان من الأمير عبد الله بن عبد الرحمن إعفاءه من تدريس اخوته، فسافر إلى المنطقة الشرقية مطلع عام 1373هـ / 1953م بنية زيارة إمارات الخليج العربي، فصادف أحد معارفه وهو الاستاذ عبد الله الملحوق مدير مكتب أمير المنطقة سعود بن جلوي بالدمام فعرض عليه البقاء وإدارة شركة طباعة جديدة أنشئت حديثاً باسم (شركة الخط للطبع والنشر) بحكم خبرته وما شاهد في أسفاره، ولكونه كان ينشر مقالات وقصائد في صحف المنطقة الغربية (أم القرى - وصوت الحجاز) إبان عمله مدرساً في المعهد السعودي ومدرسة تحضير البعثات بمكة 54 - 1359هـ، وقال: إن الشركة قد طلبت من ولي العهد الأمير سعود بن عبد العزيز إصدار أول جريدة بالمنطقة وهي (أخبار الظهران)، وهكذا قَبِل وعمل لمدة تزيد على ثلاث سنوات حتى أوقفت الجريدة بعد صدور 44 عدداً وسجن صاحبها لمطالبته بتعليم البنات. أقول إن السفر فعل فعله في أستاذنا الرائد الجهيمان. لقد رأى الحياة ورأى النهضة والتقدم ودور العلم والتعليم في المجتمع، والصحافة وما تقدمه من توجيه ونقد ورسم للحياة الفضلى وللمستقبل برؤية واضحة المعالم، فأراد أن ينقل ما شاهده ولمسه هناك إلى الواقع المحلي ليرى وطنه ومواطنيه ليسابق غيره في اللحاق بعجلة التقدم، فبدأ يكتب مطالباً ومنتقداً وموجهاً وفاتحاً أبواب وصفحات الجريدة للجميع لخدمة المصلحة العامة، وجمع بعض مقالاته بعد توقف الجريدة بكتاب سماه (دخان ولهب). وبعد عودته ليعمل بوزارة المعارف بالرياض وأصبح يكتب باليمامة بجرأة تحت عنوان: (أين الطريق؟) وفي صحيفة القصيم عند صدورها عام 1379هـ احتل زاوية شهيرة باسم (آراء فرد من الشعب) باسمه وزاوية (المعتدل والمايل) بكنيته (أبي سهيل).
باختصار أقول إن الجهيمان قد لعب دورا مهما في توعية وتثقيف المجتمع، وحتى عندما منع من الكتابة وتعرض للسجن فيما بعد لم يتوقف، بل بدأ بمشروعه الضخم وهو جمع الأمثال الشعبية وشرحها وقد صدر بعشرة مجلدات، ومثلها حكايات الجدات وسباحينهن (الأساطير الشعبية في قلب الجزيرة العربية) التي صدرت أيضاً في خمسة مجلدات، وغير ذلك كثير.
لقد آثار مقال الاستاذ قدس شجوني فلم أتمالك نفسي من أن أقول شيئاً عن هذا الرجل الذي كنت في منتهى السعادة وأنا أحضر قبل سنتين مناقشة رسالة ماجستير للشابة منيرة الحربي وهي تتحدث عن (أسلوب الجهيمان التربوي) بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. لي إشارة سريعة إلى عنوان مقال الاستاذ القدس (شيخ الليبراليين)، فالليبرالية في نظر البعض أنها والعلمانية تناهض الدين والتدين وهذا ليس بصحيح، فلها معان كثيرة يكفينا منها أنها بكل بساطة ضد التأخر والجمود والمحافظة على ما كان سائداً ومتعارفاً عليه من عادات وتقاليد ليس من الدين في شيء. فهي مع التقدم والأخذ بكل جديد مفيد ونافع وهي باختصار شديد تعني الحرية والممثل الشرعي لعصر التنوير.
رحم الله الجهيمان وغفر له وجزاه الله خيراً عمّا قدم وعمل.