بدعوة كريمة من المسؤولين في مؤسسة عبد الرحمن السديري الخيرية بالجوف، كانت زيارتي الخاطفة يومي 17-19 من شهر صفر 1437هـ ولمدة قصيرة لم تمكني من مشاهدة معالمها التاريخية لضيق الوقت؛ إذ كان الوقت مشحوناً بالعمل ولم أخرج من مدينة سكاكا إلى للمركز الثقافي بمكتبته المركزية ومقر المجلة الثقافية التي يصدرها (الجوبة) والتي صدرت قبل عقد ونصف، وكان إلى جانب مشاركتي في موسمه الثقافي ولقائي بأعضاء المؤسسة ومرتادي هذا الصرح العلمي العريق، فقد ألقيت محاضرة عن شخصيتين مرا بالمنطقة قبل 55 عاماً وتركا بصمتيهما، وهما: إبراهيم الحسون وعابد خزندار.
وكان مدير عام المؤسسة الأستاذ عقل بن مناور الضميري قد هيأ لي امكانات التسجيل مع عدد من أبناء المنطقة المتقاعدين وهيأ لي لقاءهم سواء في المؤسسة أو في منازلهم، وذلك ضمن برنامج مكتبة الملك فهد الوطنية لتسجيل (التاريخ الشفوي للمملكة) إذ تم التسجيل مع الأساتذة فلحي بن عايد الفلحي وإبراهيم خليف السطام واللواء متقاعد معاشي ذوقان العطية والدكتور زياد بن عبد الرحمن السديري عضو مجلس إدارة المؤسسة والعضو المنتدب وعقل الضميري.
لقد فوجئت أولاً بالتطور العمراني للمدينة (سكاكا) وما مررت به في طريقي من المطار إليها، إذ كانت هذه ثالث زيارة للمنطقة وكانت الأولى خلال شهر رمضان من عام 1385هـ وكنت حديث عهد في الوظيفة بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية إدارة رعاية الشباب، وكانت مهمتي زيارة مدن الشمال من طريف إلى تبوك مروراً بالجوف والقريات وعرعر ورفحاء لأخذ فكرة وتقديم تقرير عن امكانية افتتاح أندية رياضية بها، إذ كان بعض شباب تلك المدن يزورونها أثناء إجازاتهم الصيفية من عملهم في شركة (أرامكو) وغيرها ويزاولون لعبة كرة القدم ويكتبون للوزارة طلباً بذلك، وعند زيارتهم لم نجد لهم أثراً. وقد يكون بعضهم يتخذ من أحد الحوانيت مقراً أو مستودعاً يودعون به ملابسهم الرياضية وكرتهم خوفاً من أن يراهم أهلهم فيستنكرون عليهم، إذ كانت مزاولتهم للعبة خارج البلدة.
والزيارة الثانية: بعد نحو عشرين سنة عندما كان مكتب رعاية الشباب بالجوف يقيم أسبوعاً ثقافياً مختتماً به موسمه الثقافي السنوي، إذ حضرت أحد هذه الأسابيع حدود عام 1405هـ وكان مدير المكتب وقتها الأستاذ ممدوح السلطان رحمه الله. وقد كسبت من هذه الزيارة لقاء مدير التعليم الدكتور عارف مفضي المسعر –رحمه الله- والتعرف عليه ودعوته للمشاركة في الكتابة عن المنطقة ضمن سلسلة (هذه بلادنا) التي كانت تصدرها للرئاسة العامة رعاية الشباب، وفعلاً استجاب لذلك.
وهذه الزيارة الثالثة بعد أكثر من ثلاثين عاماً من الثانية وقد قضيتها في المؤسسة ولم أخرج منها إلا لزيارة اللواء معاشي في منزله وتناول القهوة لدى الأستاذين خليفة المسعر وعقل الضميري في منزليهما.
قضيت المدة 48 ساعة في هذه المؤسسة السكن في فندق (النُّزل) وهو ضمن أوقاف المؤسسة والصلاة في الجامع الكبير الذي تضمه المؤسسة، وفي طريقنا إلى مجمع المدارس من الروضة إلى الثانوية وهي أيضاً ضمن أوقاف المؤسسة، لقد أعجبت بما شاهدته من نشاط وما تقدمه من خدمات علمية ومعرفية طوال نصف قرن، إذ كانت الفكرة قد بدأت عام 1383هـ كمكتبة عامة تطورت بعد ذلك إلى مناشط مختلفة حتى توجت بالأمر الملكي رقم 1/442 وتاريخ 9/9/1403هـ، وكانت تهدف فيما تهدف إليه إلى إدارة مكتبة (دار الجوف للعلوم) وتطوير خدماتها لتصبح مركزاً للبحث العلمي والأدبي، ثم تطورت ليضيف إلى مسؤولياته إنشاء (مدارس خاصة للبنين والبنات) تشمل جميع المراحل، وفندق (النزل) الذي افتتح عام 1415هـ الموافق 1995م من فئة 5 نجوم، أما المكتبة العامة والتي تحولت إلى مركز ثقافي يقدم خدمات جلى من أماكن للبحث إلى نشاطات منبرية من محاضرات وندوات وأمسيات وحلقات حوار وغيرها.
وقد تطورت المكتبة لتضم في الوقت الحاضر أكثر من 168 ألف كتاب عدا الرسائل الجامعية والدوريات، ومتحفا يضم الكثير من وسائل الرعي والري والتاريخ إذ تجد به صور من مر بالجوف من أمراء في العهد السعودي الثالث من الأمير إبراهيم النشمي والذي سماه الملك المؤسس – رحمه الله- بذلك إذ إن اسمه كما تروي كتب التاريخ أن اسمه الوشمي، ولكن سرعته ونباهته وحيويته لفتت نظر الملك عبد العزيز فقلب اسمه إلى (النشمي) وحتى الأمير الحالي فهد بن بدر بن عبد العزيز، إضافة للعملات والمخطوطات والطوابع ولفت نظري مصحف مخطوط من تاريخ 395هـ وغيره.
ناهيك عن مجلتين دوريتين مهمتين إحداهما ثقافية أدبية وهي (الجوبة) والتي يشرف على تحريرها الأستاذ إبراهيم الحميد والتي تضم الكثير من المشاركات الأدبية والثقافية بشكل عام، وقد صدر منها حتى الآن 48 عددا. أما الأخرى (أدوماتو) فهي متخصصة بالتاريخ والآثار بشكل عام ويرأس تحريرها البروفيسور عبد الرحمن الأنصاري وهي كما علمت الوحيدة في المملكة - بل الوطن العربي- وقد صدر منها أكثر من20 عدداً باللغتين العربية والإنجليزية.
لا ننسى الكثير مما تقوم به المؤسسة من أعمال تدعو للإعجاب فلا بد من ذكرها وشكر القائمين عليها فمن تحفيظ القرآن الكريم إلى الدورات التدريبية في مجالات مختلفة أذكر منها تعليم الحاسب الآلي إلى الخياطة وتعليم اللغة الإنجليزية للجنسين، وحتى تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، ونشر البحوث ودعم البحث العلمي، كما أنشئت جائزة الأمير عبد الرحمن السديري للتفوق العلمي لخريجي الثانوية العامة من تاريخ 1410هـ وقد تطورت بعد ذلك إلى الابتعاث للدراسة في الخارج وتمنح سنوياً من عام 1421هـ وأصبح عدد الحاصلين على الجائزة اثني عشر، تخرج حتى الآن منهم طالبان من الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا وستة طلاب ما زالوا يواصلون دراساتهم في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ونيوزيلندا، كما تمنح جائزة نقدية قدرها 25000 ريال للطالبة الحاصلة على المركز الأول في الثانوية العامة على مستوى الجوف.
وقد طبعت المؤسسة الكثير من الكتب الثقافية والتاريخية التي لها علاقة بالمنطقة بشكل خاص وبالمملكة بشكل عام، إضافة للنشاط المنبري والذي اقامت ما يزيد منه على 350 نشاطاً بقسم الرجال ومثلها بالقسم النسائي.
ولا أنسى استقبال وترحيب الدكتور زياد السديري والاستجابة لطلبي في التسجيل معه ضمن التاريخ الشفهي ليعطي صورة مختصرة للمؤسسة تاريخاً وواقعاً رغم ضيق وقته وترك ضيوفه على العشاء ينتظرونه.
هذا وقد التحق بمجلس إدارة المؤسسة في العام الماضي إلى جانب أبناء الأمير عبد الرحمن السديري وأحفاده الدكتور عبد الرحمن الشبيلي والدكتور عبد الواحد الحميد بالإضافة إلى إتاحة الفرصة للمرأة فقد التحق أيضاً بالمجلس السيدة شيخة بنت سلمان بن عبد الرحمن السديري، وهذه لفتة جميلة تشكر عليها المؤسسة ومجلس إدارتها.
ختاماً، لا بد من الشكر والإشادة بجهود هيئة النشر ودعم الأبحاث التي تنشرها المؤسسة سوءا في المجلات أو الكتب وهم الدكاترة: عبد الواحد الحميد وخليل المعيقل وميجان الرويلي ومحمد الراشد، وشكري اللا محدود لمدير عام المؤسسة عقل الضميري.
كما لقيت ترحيباً وتقديراً من إخوة أعزاء كان لي شرف مقابلتهم والتسجيل معهم من قبل ومنهم الأساتذة خليفة المسعر ونواف الذويبان وعبد الرحمن الدرعان ولا أنسى لطف وحيوية الأستاذين الشاعر محمود الرمحي سكرتير تحرير مجلة الجوبة والأستاذ مرسي عطا، أمين المكتبة، والمصور الباهر أحمد هاني الذي أتعبته وأرهقته طوال مدة بقائي بالمؤسسة.. وشكراً للجميع.
- الرياض