أيهما الأصل في العلاقات الإنسانية الصراع أم الاتفاق؟..
وهذا السؤال يعيدنا إلى أصل الطبيعة الإنسانية الذي كشفت عنها آيات القرآن..
قال تعالى: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ? وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ»-هود 118-
قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»-الحجرات13-
قال تعالى: « وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ»-[الروم 22-
وقال تعالى: (وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) [الجاثية: 16، 17]
وقال تعالى: « كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ «-البقرة 213-
ومن تلك الآيات الكريمات نستنتج جوهراً و مصدراً و قيمة.
أما الجوهر فهو أن الاختلاف « سنّة الله في الكون» و بما أنه «سنّة كونيّة» فهو ممثل الأصل.
أما المصدر فيتعلق بأسباب الاختلاف ذاته؛ و الذي يؤسس نسقيته على أربع قواعد هي: القاعدة الدينية، القاعدة الاجتماعية، القاعدة الثقافية، القاعدة العلمية.
أما القيمة فهي الفائدة التي سُنّ من خلالها الاختلاف وهي قيمة «المعرفة» تلك القيمة التي تُسهم في تكامل التجربة الإنسانية.
إن قيمة الاختلاف وفق ما سُنّ له هي التكامل الإنساني، التكاملية المبنية على التعاون الوظيفي الذي يرتقي بالتجربة الإنسانية ويحقق لها الغاية الحضارية عبر تعمير الأرض ونهضويتها.
لكن هل أصل «السنّة المقدرة» حاميّة لثباتها ومانعة من تدخل «المشيئة المقصودة» لتحريف ذلك الأصل.؟
إن أصول القيم المقدّرة غالباً ما تتعارض مع الطبيعة المكتسبة للإنسان، هذه الطبيعة التي تتفاوت وتتنوع من خلالها أفكار الإنسان والتي تتحرك عبرها اتجاهاته وقراراته وأفعاله.
وهكذا فإن الطبيعة الإنسانية المكتسبة تعمد إلى تحريف هي التي حرفّت تلك القيمة لتحوّل الاختلاف إلى مصدر للتمايز والعنصرية، لتسنّ وفق ذلك التحريف فكرة التكامل بالكلية الأحادية بدلاً من الاختلاف، تلك الكلية المبنية على التنافس و الإقصاء والإسقاط.
ويُمكننا تحديد أسباباً لتعارض الطبيعة المكتسبة بمشيئة مقصودة مع أصول القيم المسنونة عبر «قدريّة الاختلاف»، أو ما يُسمى «بالصراع».
ولكن قبل الدخول في كشف الغطاء عن تلك الأسباب وتحليلها علينا أن نقف أمام مصطلحين هما: الاستبداد و الصراع.
قال تعالى» وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ»-البقرة،30-
في الآية الكريمة نقف عند فكرة «قدريّة الصراع» التي عقّبت بها الملائكة بعد ذكر الله سبحانه وتعالى بأنه سيجعل خليفة في الأرض.
والحقيقة أن مصطلح «خليفة» هنا يُشير إلى «وجود مخلوق استوطن الأرض قبل الإنسان» كما يُشير إلى أن آدم هو بديل للمخلوق الذي قضى الله عليه، ولعل سبب القضاء كما أوضحت الملائكة طغيان ذلك المخلوق وصراعاته التي أكثرت الفساد وسفك الدماء.
كما أن «معنى خليفة» هو التعويض عن غائب بالأبدية بالإحلال المقصود بمعوِض آخر،و التعويض غالبا في حالة المحو و الإحلال يكون من ذات الجنس أو حامل لذاكرته أو قريب من خصائصه.
ولو قارنا بين ما ذكرته الملائكة من تاريخ المخلوق الذي استوطن الأرض قبل الإنسان والتاريخ الإنساني منذ تواجد الإنسان على الأرض حتى اليوم لوجدنا ذات التوصيف بينهما بالمطابقة.
لاشك أن الأرض قبل هبوط آدم والشيطان فوقها كما تُشير الآية الكريمة كانت مستوطناً لمخلوق لا نعرف عنه سوى « سلوكه الفاسد و نزعته الدموية». وهو ما يجعلنا نستوقف عند «هل الصراع قدر محتوم» على كل من استوطن الأرض؟.
عندما قدّر الله هبوط آدم و إبليس إلى الأرض قدّر معهما الخير و الشر والحق والباطل، تلك القدّرية التي منح الله نصفها لإبليس من خلال «سلطة الغواية و الإضلال» ونصفها للهبة الروحانية عبر الطبيعة الآدمية من خلال «سلطة القدرة على نشر الخير و الحق».
ومن هنا يُمكن ترهيص علاقة الصراع بناء على مصدر السلطة ونوع المُنتج وغايته؛ لصعوبة التجاور والتعايش بين الخير والشر والحق والباطل.
وصعوبة التعايش هنا تعود إلى الخلاف بين الأفكار و المقاصد والغايات.
حينما خلق الله آدم ثم طلب من الملائكة وإبليس أن يسجدا له، وهذا الطلب كانت له دلالته التي فهمها آدم كما فهمها إبليس، وهي «دلالة الخيريّة» التي جعلت إبليس يرفض السجود لآدم؛ لأن السجود في ذاته هو حامل لحقيقة الاعتراف بتلك الخيريّة التي جعلت الملائكة وهم الأعلى في المرتبة من حيث طبيعة الخلق والوظيفة يسجدون لآدم، ولكن الرفض هاهنا يحتاج إلى «ذريعة» مانعة وكافية لمنطقة عدم السجود، وكان نوع الطبيعة هي الذريعة التي احتج بها إبليس ليبرر رفضه للسجود «أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين» وهذه المقارنة التي سيقت في خطاب إبليس فيما يتعلق بمضمون المقارنة أو نوع الطبيعة الفاصلة في رأيه لتحديث مفاضلة أخرى و التي مهدّ لها «بالنتيجة» المدعومة بأحادية المُخاطِب قبل المسوّغ خلاف المعتاد في الخطابات ذات «الأنماط الحججية» المعتمدة على كفاية اتصالية مقصودة و مباشرة، أو ما أسميها «قالب الكفاية السياقي» لها دلالتها التي تُشير إلى أن أي مقارنة تبدأ بتفسير وتنتهي إلى نتيجة هي مقارنة جدلية تتكافأ فيها نسب الصواب والخطأ واليقين والشك.
في حين أن أي مقارنة تبدأ بتثبيت حقيقة خاصة ثم تسويغها بمقصود فضلويّ ترفع الاعتقاد أو التوهم بوجود مصدر مؤسِس قادر على إنشاء نظير مُكافئ يحذف القصد الأحادي ويمنع ظهور قابل الثنائية، وبذلك يُصبح ما يدخل في إطار المقارنة ليس حسبة تفاضلية إنما ثابت نفي لعدمية الاعتقاد بوجود تلك الحسبة التفاضلية.
لكن هل أمر السجود لآدم يمثل «حسبة تفاضلية»، أم أن الاعتقاد بوجود حسبة تفاضلية كان اعتقاداً خاصاً بإبليس استنتج من خلاله التكريم الخاص لآدم والذي أسس وفقه استراتيجية قدريّة الغواية لأبناء آدم؟.
أظن أن مسألة الحسبة التفاضلية التي قرر في ضوئها إبليس تفضيل الله سبحانه و تعالي لآدم بالتكريم دونه وفق الأمر بالسجود لآدم ماكانت إلا وهماً أو استشرافاً مستقبلياً لعلاقة الصراع بينه وبين المخلوق الجديد وكلتا الحالتين صاغهما في فكرة «التمييز العنصري» لتبرير شرعية العداء لآدم، والأمر قبل ذلك هو قدّر مخطط من الخالق لتشريع طبيعة الحياة الأرضية المؤسِسة على «فلسفة الصراع» التي تكشفت من خلال «قصة الشجرة المحرمة» عندما وسوس إبليس لآدم ليتمرد على القانون التحذيري الإلهي بعدم الأكل هو و زوجه من تلك الشجرة لكنهما أكلا منهما مما ترتب على ذلك التمرد أمر الخالق لكليهما ليهبطا إلى الأرض بعد أن صنف صفة كل منهما للآخر «بالعدو» فآدم عدو للشيطان كما أن الشيطان عدو لآدم.
وبذلك أسست الحياة الأرضية على مصدر الصراع؛ ثنائية الخير والشر، وتمكين الله سبحانه و تعالى إبليس من «سلطة غواية البشر «لقياس قدرة البشر على مقاومة الشر والباطل والجهل والكفر.
إن رفض إبليس السجود لآدم إضافة إلى وهمية «التمييز العنصري» الذي برره لشرعية ذلك الرفض كانت هناك وهمية أخرى حاصل الوهمية الأولى وهي «حق امتلاك السلطة» الذي اكتسبها آدم من فرضية ذلك السجود، وكأن الخيرية تتبعها سلطة بل لا خيّريّة دون سلطة‘ كما أن لا صراع دون سلطة؛ ولذلك طلب إبليس من الخالق تمكينه من سلطة موازية لتحقيق توازن متكافئ للصراع فوق الأرض من خلال «سلطة غواية أبناء آدم». وقد يتواجد هنا سؤال مضمونه ما علاقة قصة السجود و الهبوط و التحريم و الاثم بمحور ما نناقشه «الصراع على السلطة»؟. وعلاقة القصة السابقة بمحورنا أنها رسمت للبشرية قدرية صراعها الأرضي وصوره و مسوغاته.
وبعد هبوط آدم و إبليس إلى الأرض «ساحة الصراع «حدث أو صراع دموي في تاريخ البشرية «عندما قتل قابيل أخاه هابيل».
ولو تأملنا أسباب قتل قابيل لهابيل لأوجدنا أن تلك الأسباب في مجملها أو عمومها أو خصوصها هي دائما الدافع لقتل الإنسان أخيه الإنسان حتى يومنا هذا.
لقد ظن قابيل أن هابيل هو أحسن منه و أفضل عقيدة و عملا لأن الله تقبّل منه عمله،بما يعني أن هابيل قد مُنّح «خيرية» -القيمة الاصطفائية- بصفتي الحسن و الفضل الذي جعلت هابيل مختلفا عنه؛ لأن عمله تقبله الله، و هو ما يعني اكتساب سلطة ضمنية بموجب ذلك الفضل والحسن والاختلاف تجعله يملك القدرة على التحكم في الأمور، في حين أن عقيدة وعمل قابيل لم يتقبلهما الله منه لسوء مستواه.
ونلاحظ في هذه القصة أن أساس الصراع بين قابيل و هابيل هي «العقيدة» لأن النصر الديني الذي حققه هابيل عندما تقبل الله عمله هو الذي «رسّخ خيريّة» هابيل و ما صاحب تلك الخيريّة في ظن قابيل من حسن وفضل واختلاف وقوة وسلطة، وهو ما يعني أن الهزيمة الدينية لقابيل ستحرمه من كل ما اكتسبه هابيل في المقابل.
وبدلا أن يسعى قابيل لتحسين منتجه الديني حتى يتم قبوله، فكر في قتل أخيه ليتخلص من مصدر التنافس ؛لأن الأحادية غير قابلة للمفاضلة وهي مُلغيّة للاختلاف كما أن الثنائية جالبة للخلاف و الصراع.
وبذلك أسست هذه القصة في ذاكرة الإنسانية التطرف الفكري «أنا والموت للآخر» كما أسست لمبدأ أن الاختلاف الديني الحيّ جالب دائماً للصراع؛ لأنه مصدر لقوة وسلطة ثابت، وأن الأحادية هي الطريق الأقرب لصناعة القوة والسلطة.
- جدة