د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
الجانب الأول: الاعتماد المطلق على أولوية النقل من السلف وعدم الأخذ بالرأي (المنهج العقلي) في تأويل معاني النصوص والمأثورات القولية والفعلية في الأمور الدينية والدنيوية. وفي هذا يقول د.محمد الشويعر في مقاله بصحيفة الجزيرة تحت عنوان «العقول» بتاريخ 15-2-1437هـ: (ولذا فإن
العقل لا يعتبر مقياساً في كثير من الأمور - وخاصة منها ما يرتبط بمصالح الإنسان الدينية والدنيوية...). ولا شك أنه لا يجوز لأحد أن يقول بغير ذلك في الأمور المتعلقة بالعبادات والغيبيات التي لا يدركها العقل البشريّ، أو الأمور التي قضت فيها أحكام شرعية صريحة بالحلال والحرام أو بالأمر والنهي ؛ أمّا تطبيق ذلك على الأمور الدنيوية الأخرى التي من طبيعتها أنها تتغيّر بتغيّر أحوال الناس والزمان، فإن النقل (المجرّد) لشيء لا يتوافق مع السياق الزمني والمكاني الراهن أو لا يمكن تصديقه لا بُدّ له من النظر العقلي، إمّا لنزع الشك في صحة النقل (وليس في المنقول عنه كما يتوهّم البعض)، أو لفهم معنى النص القولي أو الفعلي بما يحقق المقصد الشرعي، أو لإمكانيّة شموله بالتوجيه النبوي: (أنتم أعلم بأمور دنياكم). الاكتفاء بالنقل المجرد في تلك الأمور دون اعتبارٍ للعقل يصبح مُتَّكأً تستند إليه أنماطٌٍ من التفكير التقليدي تخلّف آثاراً سلبية في الحياة الثقافية والاجتماعية مثل التهاون في الالتزام بما يسمّى (القوانين الوضعية) باعتبار أنها ليست (منقولة) من مصادر شرعية مع تجاهل كونها صادرة من ولي الأمر (الحاكم الشرعيّ) الذي تجب طاعته شرعاً وكونها- بميزان العقل والشرع- تهدف لتحقيق مصالح عامة، أو لجوء بعض الجماعات لتأويل ألفاظ النص وفق أهوائهم ومصالحهم الذاتية، أو المبالغة في استخدام سدّ الذريعة للقطع بحصول مفسدة بناءً على احتمالات ضعيفة أو مُتوهَّمة كمعارضة المتشدّدين في عدد من البلدان الإسلامية لبعض الأنشطة النسائية التي تنفع المجتمع بذريعة أنها تقود للاختلاط الذي قد يفضي إلى محرّم، أو اللجوء التلقائي إلى الأحكام والأفكار المسبقة (الجاهزة) للحكم على الآخرين سلباً بموجب تصنيفهم (فكرياً- طائفياً- مهنياً-عرقياً ...إلخ)، وهي أحكام تناقلتها الأجيال من آراء مذاهب متعصبة أو منحرفة أو خطب مهيّجة للعواطف أو عادات تربوية موروثة. وأخيراً فإن من يتمسّك برأيه في أمر من الأمور مستدلاً بما يختاره من النصوص ولا يعترف برأي آخر قد يكون فيه الصواب، إنما هو شكلٌ من أشكال التزمت وجمود الفكر والعجز عن التعامل الصحيح مع محدثات الزمان.
الجانب الثاني: الثنائية التي أشرت إليها - من قبل - في موقفنا من الحضارة العلمية الحديثة حيث اعتبرناها حضارة غربيّة لغةً وفكراً وثقافة، أمّا نحن فنجيد علوم الدين واللغة ونمجّد تراثنا وتاريخنا، ونخاف من تأثير تلك الحضارة على أصالتنا الثقافية لو التحمنا بها التحاماً أو نقلنا فكرها وعلومها إلى لغتنا، تماماً مثلما خاف أجدادنا من تأثير العلوم الفلسفية والطبيعية التي نقلناها إلى لغتنا فطوّرناها، لتقطف أوروبا ثمارها. هذه الثنائية جمّدت عقولنا وجعلتنا نأخذ من حضارة الغرب منتجاته المادية الجاهزة، ونتعلّم علومه بلغته هو، ثُمّ ننقلها إلى بلادنا تدريساً وتطبيقاً بلغته أيضاً. لا نزيد فيها ولا ننقص، ولا نسعى بجدّيّة إلى توطين النافع منها وإبعاد الغثّ والمبتذل وتأصيلها في لغتنا وثقافتنا بالترجمة والبحث والتفكير المبدع.
إن العقل هنا مستريح في قفصه.
الجانب الثالث: التعليم العام والمهني والجامعي حظيَ منذ عشرات السنين بدراسات كثيرة وتشخيص لمشكلاته ومحاولات لا تنقطع لعلاجه وتطويره، في كل العالم الإسلامي تقريباً. وفي بلادنا يحصل التعليم على ربع ميزانية الدولة.
وانتشر التعليم انتشاراً كمّياً في جميع أنحاء البلاد، وعلى جميع مستوياته. ومع ذلك لم يحظَ بالرضا من الجميع عن جودته ومخرجاته. يخالج البعض منّا أحياناً شعور بالخوف أن جهود التعليم العام قد ضاعت هباءً، عندما يطّلع على المستوى المعرفي لخريجي الثانوية العامة - سواءً في مجال التعبير أو الكتابة باللغة الأمّ أو اللغة الأجنبية أو فهم قضايا الدين والمجتمع أو في استيعاب العلوم الطبيعية المقرّرة. أمّا المتخرّجون من الجامعة أو المعهد المهني فإن أكثرهم في نظر أصحاب العمل في القطاع العام أو الخاص غير مؤهّلين بما يناسب سوق العمل! وقد يكونون كذلك، ولكن لا يفترض في مؤسسات التعليم أن تنتج وحدها خريجين جاهزين لأداء العمل فوراً وبدون إشراف وتدريب أو تأهيل. هل التعليم بلا عقل؟ لا يمكن ذلك، لأن التعليم هو عقل المجتمع. كل ما في الأمر أن آليات التعليم - كالمناهج (حشو المقرّر بتفاصيل أو معلومات لا جدوى عملية منها وترهق ذهن الطالب بحيث تجعل استيعابه سطحياً يتلاشى بسرعة بعد انتهاء العام الدراسي)، وطرق التدريس (شرح المقرّر المكتوب لغرض مذاكرته أو حفظه استعداداً للامتحان - أي بالتلقين - دون شحذ الذهن بالسؤال والجواب وتنمية مهارات التفكير، ودون ربط المادة المشروحة بالتطبيق العملي والتدريب، خاصة على أساسيات المنهج)، وتأهيل المدرّسين (لوظيفة التدريس فقط، لا ليكونوا معلمين مربّين هدفهم لا يتمثل في شرح الدرس وإنهاء المقرّر فحسب، بل في تطوير قدرات الطالب على الاستيعاب والتفكير والبحث)، والبيئة الثقافية (حيث يكون الحصول على الشهادة ثم الوظيفة لا يتطلب في عرف المجتمع أكثر من النجاح في الاختبارات، أما بناء الشخصية وتنمية المواهب وتعلّم المهنة الموافِقة لقدراته والمشاركات الاجتماعية والثقافة العامة فأمور بعيدة عن الاهتمام) - كل هذه الآليات إن ظلّت قاصرة، فإنها تُبقي على العقل في قفصه محدود النشاط.
خاتمة: إن القفص الذي انحبس العقل فيه ليس مستعصياً على الفتح، غير أن مفاتيحه ليست بضاعة جاهزة تشترى. فلسنا بحاجة لشرائها، بل لإنتاجها، والأفكار والخطط - وهي الموادّ الخام المحلّيّة اللازمة لذلك - موجودة. ما نحتاج إليه هو اجتماع الرأي والعزم على إطلاق العقل من القفص وتسريع الخطى.