د. فوزية البكر
أينما ذهبت فالعيون تراقبك
في المطعم، في المول، في المستشفى ولو استطاعوا في بيتك!
حتى في السفر ستجدهم يراقبون بعضهم
إنه شعب ملقوف!!
تغريدة أطلقتها هيلة المشوح في 12-1-2016
مسافرون للخارج
ومع وجود المناظر الطبيعية الساحرة
إلا أنهم لا يستمتعون بها
بل يستمتعون بالنظر في كل عائلة سعودية
تغريدة أطلقها محمد آل بخات في 12-1-2015
الحال نفسه حين تكون في عزيمة أو حفلة زواج: من اللحظة الأولى لدخولك المكان والردارات العينية محشوة بكل التوقعات الاجتماعية تتابعك بصمت وحذر في ماذا لبست وما هي ساعتك وما هي ماركة شنطتك وحتى الحذاء الذي يلبسه فليس مهما أن يكون مريحا أم لا المهم وش الماركة؟
عالمنا المحلي معني بتفاصيل الآخرين: شكلهم وماذا يعملون وماذا يأكلون إلى أين يسافرون وما ملابس أطفالهم ومن أي جيل تلفونهم المحمول إلخ، وحين تجلس في جلسة عائلية يكون محور الحديث في الغالب عن الناس: البارح في الزواج يا الله كان الورد خياليا ولا ما شفتي صواني الشوكلاتة وأكثر من عشرين صبابة: يعيني سناعة صدق وأنا جلست إلى زفة العروس وصبرت شوي عشان أشوف العشاء وأخذ صور أحطها في سناباتي بس ما أكلت! وش ذا الفستان رقيق وحلو صحيح بس علي كل ها الخساير؟ وأخت العروس وش ذا النحف حالتها حالة الخ الخ الخ.
هكذا تدور الأحاديث التي محورها ليس نحن بل الآخرون، ولذا نشعر بقلق عارم تجاه صورتنا الخارجية فنجملها ونتحمل فوق طاقتنا المالية والشخصية لنشتري هذه الساعة وهذا الطقم وهذا الفستان وهذا المنزل وهذه السيارة، لأن هذا ما سيراه الآخرون ويلاحظون فمهمتهم الأساسية تتلخص في تقييمنا، فأما أن نجتاز التقييم الاجتماعي بأننا نستطيع أن (نقلد) ما يفعله من هم فوق وأننا متمدنون كفاية وأما سيتم تسليط اللسان الاجتماعي الذي لا يرحم ليحط من قدرنا اجتماعيا وشخصيا لعدم كفاءتنا في مقابلة التوقعات الاجتماعية.
وتمتد قدرة أجهزة الرادار البشرية لتشمل الناس أفرادا وجماعات، فالفتاة لن تسلم إن كانت قصيرة أو سمينة أو ذات شعر خشن مثلا من أن يتبرع الجميع خالات وعمات وقريبات وصديقات وحتى موظفة المتابعة في داخل الجامعة لن تألو جهدا في تقديم النصح الذي لم يطلبه منها أي أحد أصلا لكنه الشعور الجماعي بالرغبة في النقد والتحدث حول وجهات النظر في أمورك الشخصية التي لا تعني أحدا غيرك مثل أن تكون سمينا بزيادة بسيطة عن المعهود أو أن تكون ذا شعر كث لا تهده أحسن الشامبوهات الخ ولكن كل من حولك سيقدمون النصائح معتقدين أنهم يساعدونك لكنهم لا يعون أنهم في ذات اللحظة ينعتونك بالسمين أو القبيح أو المبهذل إلخ.
لماذا نشغل أنفسنا حتى حين نسافر كما ذكر زميلنا آل بخات في تغريدته إما بالهرب من السعوديين حتى لا يروننا أو نركض وراءهم حتى نتابعهم ويتابعوننا فهذه جزء من مهمات السفر: أن نتأملهم ويتأملوننا ولذا يعشق السعوديون عواصم محددة لأن التوقعات الاجتماعية المحملة بكل توقعات المظهر الخارجي ستكون موجودة هناك من اسم الأوتيل أو المنطقة التي يوجد فيها السكن إلى نوع السيارة إلى أسماء المطاعم التي يذهبون لها وغني عن القول: إن الملبس والميك أب والشنطة والجزمة والإكسسوارات: كلها جزء من هذا الملف المعقد الذي يدور وخاصة صيفا في عواصم أوروبية معروف لنا كسعوديين وتحديداً: لندن، باريس وفيينا وروما وكان وسردينيا وهكذا.
لماذا يا ترى أصبحنا أسرى لهذه الدائرة المرضية المعنية بما يفعله الآخرون من الخارج : ماذا يلبسون وكيف يظهرون وأين يذهبون؟
هناك بالتأكيد عوامل كثيرة جداً ساهمت في نشر هذه الظواهر ومنها التعليم الذي منح الناس قدرة علي المعرفة والبحث عن بدائل وتحسين مستويات المعيشة، كذلك قدرة الناس على السفر والتنقل والتعرف على التنوع وعلى الآخر كما ساهمت وسائط التواصل الاجتماعي في تأكيد الظاهرة إذ كل أحد يريد أن يراه الآخرون يفعل كذا ويسافر كذا ويلبس كذا عبر الانستجرام أو السناب تشات أو غيره من البرامج . لكن أهم عامل في نظري والذي يؤدي إلى كل ما سبق هو طبيعة المناخ الثقافي المنتشر والمحمل بقيم اختلط فيها مفهوم الثراء مع مفهوم الفقر والمظهر بطريقة مرضية.
لنستمع إلى الفيلسوف والمربي أيفان ايلتيش (1985) والمعروف في الأوساط التربوية بكتابه المشهور (موت المدرسة)! والتي دعا فيه إلى هدم المدرسة باعتبار أن مؤسسات المجتمع كلها يجب أن تكون مفتوحة للناس ليتعلموا منها طوال الوقت وفي أي لحظة.
وفي تبريره لذلك يتحدث عن سيطرة المؤسسات المختلفة على حياتنا حتى نستهلك خدماتها بدءا بالمدرسة وانتهاء بالمؤسسات الصحية والقانونية وغيرها حتى اختلطت مفاهيم الفقر والثراء بقدرة كل منا على استهلاك خدمات هذه المؤسسات. يقول إيليتش (استطاعت بيروقراطيات الرخاء أن تكسب لنفسها احتكارا مهنياً وسياسياً على حساب الخيال الاجتماعي وذلك بوضعها المقاييس التي يتحدد بها ما هو قيم، وهكذا أصبح الفقر أو الغنى يحدد بالنسبة لقلة أو ارتفاع استهلاك ما تنتجه مؤسسات المجتمع المختلفة من خدمات وعلى سبيل المثال فالفقير يحدد مثلاً بأنه من لم يحصل على أو (يستهلك) ثلاث سنوات من التعليم في المكسيك واثنتي عشرة سنة في نيويورك نفسها، والظاهرة نفسها تصدق بالنسبة لخدمات الصحة والإعلام والكهرباء وكافة الخدمات الاستهلاكية من منازل ومطاعم وهكذا، فكلما كبر منزلك وزادت عدد سياراتك وزاد استهلاكك لخدمات المؤسسات المختلفة نظر لك باحترام وتبجيل مما يعني تزايد الاعتماد على خدمات المؤسسات من كهرباء وتجميل وملابس إلخ في حين أن الفقراء الذين لا يتمكنون من الحصول على هذه الخدمات بنفس الدرجة يصيبهم العجز النفسي فعدم قدرتهم على دفع حساب هذه الخدمات التي تصبح ذات أهمية ودلالة اجتماعية يشل قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم بما يدفعهم إلى مزيد من الإحباط والشعور بالعجز وهي الأوجه الثلاثة للفقر في صورته المعاصرة الأمر الذي يؤدي إلى مزيد من تلوث البيئة الطبيعية، مزيد من التفاوت الاجتماعي ومزيد من العناية بالمظاهر الخارجية لإرضاء التوقعات الاجتماعية المرتبطة بها.
وهكذا يرى فيلسوفنا أن المؤسسات الرأسمالية تعمل على استمرار استهلاك الناس لخدماتها حتى لو لم يكونوا بحاجة لهذه الخدمات لأن لوجودها بين الناس دلالة اجتماعية على الغنى والثراء والتمدن وهو ما يحرص الكل على الحصول عليه. إذن ظاهرة اللقافة بهذا التفسير لن تتوقف فهل نحتاج مصحات نفسية وثقافية لتخليصنا من سيطرة المؤسسات؟