فاطمة العتيبي
ترتبط مؤشرات التنمية المرتفعة بارتفاع جهود الدولة للرعاية الإدراكية لمختلف شرائح المجتمع، فكل جهود التنمية تذهب سدى إذا ما رافقها جهود تسعى لرفع الوعي الإدراكي للأفراد داخل المجتمع.
قرار مهم مثل شراء سكن، يتخذه الفرد بوعي إدراكي تشكّل عبر سنوات ولا يمكن أن يتغير بفعل نصيحة عابرة مثل «مدّ رجلك على قدر لحافك» فالفرد الذي يعيش في مجتمع يقضي نصف احتياجاته الترفيهية ببطاقات ائتمانية مغرية تسهل البنوك توصيلها إلى المنزل لن يستوعب مفهوم (القيام مع القدرة)، كما أنه لن يتمكن من قبول شراء المتاح له وهو يرى أن الأحلام تتحقق بين يوم وليلة لفلان وعلان بمجرد تبوئهم المنابر في المساجد أو الكراسي الوثيرة في ردهات المؤسسات العامة.
الرعاية العاطفية تكاد تكون متماثلة في العالم وقراراتها واحدة، فالفقراء والمنكوبون والأيتام والأرامل واللاجئون والمرضى والجوعى، القرار تجاههم واحد والجهود واحدة في كل دول العالم، وهي تتمحور حول الاستنفار لمساعدتهم وتشكيل مجاميع تطوعية ورسمية لنجدتهم. فمثلما أن الابتسامة لغة مشتركة بين البشر، فالدموع ونجدة المحتاج هي الأخرى لغة مشتركة!
لكن الرعاية الإدراكية التي تقوم على صنع ثقافة فردية، ومن ثم مجتمعية وفق رؤية إستراتيجية تستشرف الإجابة على السؤال: ماذا نريد لهذا البلد أن يكون عليه في المستقبل؟.. هذه الرعاية ترتفع جداً في البلدان ذات التنمية العالية وذات الرتبة العالية والمتقدمة في تصنيف التنافسية الدولية.
وتقوم صناعة القرار التنموي عليها. فإن أردنا أن تتغير ثقافة الفرد حيال مساحة السكن المناسب له - مثلاً - وفق احتياجه، لا بد أن ننفذ عدة برامج تسهم في تغيير الأفكار والنظرة الأحادية للسكن المناسب الذي لا يقل عن 500م مهما كان الدخل ضعيفاً ومقر الإقامة مرتفع الأسعار، عدم مراعاة هذه العناصر مرده عدم وجود نمط اجتماعي مستقر لكل طبقة أو أصحاب مهنة، ففجأة تجد س انتقل من بيته في الجرادية ليسكن حي الرائد!! ذلك أن قريبه تعيَّن في منصب أو أخته تزوجت من داعية!! لا يمكن في غياب معايير التطور الطبيعي لمختلف الشرائح والطبقات أن تطمح لتغيير الفكر الاجتماعي بنصيحة من وزير يقدمها للناس، وهو في مكتبه الفاره الواسع، أو بموعظة من شيخ يلقنها للجمهور، وهو يمتطي صهوة سيارة يزيد سعرها على سعر البيت الذي يحلم فيه الشاب.. هذا ضرب من خيال، بل إن ذلك سيكون مجلبة لنوع من الغضب عند بعض الشرائح التي ستشعر أنها تتلقى مطالب بالزهد ممن يجاهرون بالبذخ والترف!! الرعاية الإدراكية التي هي من أهم مراحل صناعة القرار والتي تسبق اتخاذه، إنما تتم بالنقيض وذلك بتقديم نماذج من الشخصيات الناجحة التي تعيش فعلاً حياة بسيطة تتناسب مع احتياجها، ومن أسلوب حياة للمبرزين في العمل الحكومي يُحاكي نمط البساطة وينأى عن البذخ.
وحين يرى الفرد أن المجتمع يسأل بقسوة من أين لك هذا؟.. ويرى ملاحقة جادة للفساد من المؤسسات المعنية بذلك والتي تعتمد عليها الدولة في الرعاية الإدراكية المجتمعية والتي تنشر قيم النزاهة والنزعة الروحانية ويقظة الضمير.
وبذلك يستطيع الوعي الإدراكي أن يؤمن بمتطلبات التنمية الحقيقية التي تمتد عبر ثقافة الاستهلاك المقنن والادخار وإخماد نزعة الشراء والتملك والمباهاة ويجعل المواطن يقبل السكن في بداية حياته بشقة على أمل أن يقدر فيما بعد على شراء منزل مساحته 300م مربع.