عبدالعزيز القاضي
لأوحيت خطوة عابر السوق طليت
من حر قلبي لك ومن قل صبره
- محمد العبيدالله
هذا بيت من قصيدة في العتاب والشكوى، هندسها ونفذها الشاعر العذب محمد العبيدالله الذي عرفه متذوّقو الشعر عن طريق الفن، فقد تغنى بشعره عدد من المطربين أمثال الفنان سلامة العبدالله رحمه الله والفنان المعتزل سليمان الهندي، وأكثر من غنى له الفنان حمد الطيار - رحمه الله- والفنان عبدالله الصريخ. وقصيدة بيت السياحة هذه غناها المرحوم حمد الطيار قبل ما يقارب أربعة عقود، وهي تصور مشهداً مختصراً لموقف نفسي أحداثه متسلسلة متصلة، والقصائد التي يكون للوحدة العضوية فيها يروز واضح هي الأجمل عادة لأن معالم الفكرة تتبين فيها شيئاً فشيئا وليس كذلك القصائد المنفصلة التي يمثّل كل بيت فيها فكرة مستقلة. والقصيدة بمجملها (اسكتش) عاطفي قصير مؤثّر، وصياغة الأفكار الشعرية الغزلية بمشاهد نفسية مركزة فن لا يجيده إلا القلة.
ويدور موضوع القصيدة حول عتاب الشاعر محبوبه على كثرة إخلاف مواعيده، ووصف حالته النفسية وهو ينتظره بشوق وقلق وقت حلول الموعد، ثم يشكو من عدم اهتمامه بالمواعيد لأنه في رأيه لا يعرف الحب ولم يكتو بنيرانه، ثم يختم بمعاتبته على تقصده الإضرار به بإخلاف المواعيد.
هذه باختصار هي فكرة القصيدة لكن روح الشاعر وخياله الواقعي المحلق في أجواز الواقعية إن صح التعبير، وقريحته المواتية، أكسبت القصيدة جمال السهل الممتنع. وروعة التعبير المتناغم مع المشاعر، وصفة الانجذاب الروحي والنفسي للتعاطف مع الشكوى والعتاب، وهذا التفاعل لا يتم إلا بعد الاقتناع التام بالفكرة والتعبير والأسلوب، أما إيقاعها المتناغم مع موضوعها، فهو هادئ في التعبير واللفظ، صاخب في المعنى والنفس، وهدوء التعبير وتساوقه في المعاني التي تتوتر فيها المشاعر يدل في العادة على مقدرة شاعرية تصل إلى المتلقى مباشرة وتكسب تعاطفه التلقائي، وعلى العكس من ذلك الضجيج لأنه يربك نظام التلقي عند المتلقي، ويجبره على تغيير مزاجه ووضعه الجسدي والروحي بفظاظة يمجّها الذوق، والأسلوب الصاخب يفسد الأفكار والصور الجميلة، ولذلك يفشل شعراء (حِنّا وحِنّا) في كسب تعاطف المتذوق وإن يكونوا من المفوهين، والصخب عموماً سمة خطابية لا صفة شعرية.
لأوحيت خطوة عابر السوق طليت
من حر قلبي لك ومن قل صبره
هذا هو بيت القصيد، وصورته وإن كانت مستقلة واضحة المعالم إلا أن البيت الذي قبله يعطيها إطلالة بانورامية، فهو بمنزلة التأسيس لها، يقول:
يا ما على شانك قعدت وتحريت
لك أنتظر ما بين همٍّ وحسرة
والشطر الأول في بيت السياحة هو أعظم ما في القصيدة لأنه باختصار شديد عبر عن حالة (الترقب والشوق وقلق الانتظار) بصورة واقعية مؤثّرة لا مزيد عليها، وهو من أجمل ما قيل في هذا المعنى في الشعر النبطي إن كان قد قيل.
لماذا كان يطل عند سماعه خطوات عابر السوق، وربما سبقت إطلالاته الموعد المتفق عليه بدقائق أو ساعات؟ لأنه يتمنى أن يكون محبوبه هو العابر، فحرارة الشوق وقلة الصبر هما ما يدفعانه إلى تكرار الإطلال، إنها صورة إنسانية واقعية تمثِّل اللهفة في أجلى صورها، درامية متحركة تفتح الخيال على بيوت الطين وأزقة القرى والمدن الصغيرة، وحياة الماضي البسيط العابق بروح الأصالة، وجمال التقارب في الأرواح والأجساد، وتعيد إلى الذاكرة (القوتالة) وثقوب الرصد في الجدران المطلة على الأزقة والممرات التي تكشف لمن في البيت ما يجري في الخارج. ولا يدرك روعة المشهد مكتملة إلا من عاش في تلك البيئة التي انتزعت صورة البيت من أعماقها.