علي الخزيم
يحكى في أساطير الجدات للأحفاد، او ما يسمى في نجد (السِّبَاحِين) أن رجلاً غريباً دخل القرية وأخذ يبحث عن مأوى وعمل يقتات منه، لكنه لا يجيد أي مهنة، غير أنه كان قد تعلم القراءة والكتابة، وساعده شكله ومظهره بالاحتيال على الصبيان حيث يتوجه لمكان تجمعاتهم ويروي لهم قصصاً كان قد حفظها ويعززها بحركات بهلوانية لإضحاكهم، ومع الوقت بدأ بتطوير أساليبه وحفظ المزيد من الطرائف وقصص المغامرات الخيالية، حتى أحبه الأطفال الذين يُلِحّون عليه بطلب المزيد من الحكايات، واطمأن له أهل القرية الذين يسمونه (البهلول السايح) وهو الإنسان البسيط الذي لا يقر بمكان او بلدة محددة، فشعر أنه وصل لغايته وقرر ان لا يحكي حكايات الا بمقابل من الخبز او قليلاً من القروش، ولخشيته ان يَملّ الصغار او تنقصه القصص صار يُحدد يوماً لكل حي، ولجذب الأطفال والمراهقين حوله بدأ يوحي لهم ان أطفال الحي الاول يحاولون بقاءه عندهم وخدهم دون الحي الثاني والثالث، ويخدعهم بالقول: (لولا حبي لكم لما جئتكم)، ويصف كل حي بأوصاف مُنَفّرة حتى فَرّق جمعهم وشتَّت قلوبهم ومشاعرهم، وعمل على تلقين أطفال كل حي عبارات وكلمات ضد الآخرين حتى نشبت بينهم حروب ومناوشات كلامية وتنابز بالألقاب، تطورت الى (مواجهات صبيانية) يخرج منها هو الرابح دائماً، ففكر اهل القرية بوضع حدود بين الاحياء ما لبثت ان تسببت بالخصومة والبغضاء بين الكبار وكانت لها آثار سلبية اجتماعية واقتصادية وغيرها.
هذا الواقع يبدو انه لا زال قائماً في بعض الانحاء التي تعيش كتلك المرحلة الذهنية الفكرية ذاتها قبل عقود من الزمن، وتغذيها نعرات طائفية أو قبلية موغلة في (التعنصر) غير المحمود للعرق والعشيرة، مع أن كل يعتز بقبيلته وفصيلته لكن بقدر لا ينضح باحتقار الآخر والشعور بالتفرد والزهو الزائف بالأفضلية اعتمادا على قصائد الفخر وقصص البطولات المنسوجة خيالاً منذ آماد غابرة، وهذا المسار الخاطئ هو ما جعل الفتيان في حي ما، أو هجرة أو قرية يتعاركون بعد الخروج من المدارس أو بعد اللقاءات الكروية مُتذرّعين بأن الجانب الآخر قد نال من حَيّهم أو محافظتهم ونحو ذلك، وكأن كل فريق يعيش في دولة أخرى معادية.
هذه الحدود وهمية لا وجود لها في واقع الامر وان وجدت بين المحافظات والمناطق فهي لتنظيم توزيع الخدمات الحكومية ليس إلاّ، فهي حدود افتراضية يمكن معها تسهيل تقديم الخدمات بصورة أفضل وأسرع للمواطن والمقيم، ومن يفهم غير ذلك فهو واهم ويجب أن يُحَدّث ويُجَدّد معلوماته، وأن لا ينساق وراء المُغْرِضين.
وهذا هو مضمون ما تعلن عنه وزارة الداخلية وتأكيدها أنه لا حدود بين مناطق المملكة، وأن البلاد واحدة وكلمتها واحدة وشعبها واحد والحقوق محفوظة للجميع، مطالبة بعدم استخدام مصطلح الحدود إلا فيما بين المملكة ودول الجوار، ومبينة أن الهدف من نطاق الإشراف الإداري هو تحديد جهات الخدمات، ولم يقصد منه الحدود الإدارية.