د. خيرية السقاف
الموت ليس فقط يهزم اللذات، لكنه يثمر الحسرات..
ولا أشد حسرة من فقد العلماء الأجلاء حين تكون في رغبة لأن تلتقيهم،
أن تعرفهم عن قرب، أن تأنس للإصغاء إليهم عن كثب..
فإذا بهم يذهبون دون أن تلتقيهم ، أو تجلس إليهم
لكنهم عن خاطرك لا يغيبون.. ولن يفعلوا..!
لا أشد حسرة من فقد العلماء حين يذهبون،
تخلو أمكنتهم فلا ما يملأ فراغها سوى ما خلّفوه من عطر المعرفة، وثمار التبليغ، وحرص الموقنين، فيكون فقدهم عظيماً..
وكيف إن عرفنا أنّ في مجتمع النساء تندر العالمات الجليلات مثلها..؟!
غادرت في صمت يشبه هدوءها، وحنوّها، وصبرها، وجلَدها،..؟
وكنت قد بلغني عنها ما أنزلها في القلب، وجعلها لا تغيب عن الذهن، وتحضر في الدعاء، فقد كانت تفزع عند السؤال..
كنت قد تمنيت أن ألتقيها في هذه الفانية، بقدر ما علمت من خبرها علماً شرعياً، وثقافة دينية، وهدياً ربانياً، وتواضعاً إنسانياً ، ووفاء لمنهج، وصدقاً في طريق..
علمت عنها ما تتباهى به مقاعد الدرس، والعلم، والخبرة في أي مجال معرفي، فكيف وهي من رزقها تعالى علم الشريعة، ومكّنها من فتوى القول فيها ما تغبطها عليه الركبان في دربها؟
كانت حجة في علمها، مرجعاً للنساء، وقدوة للباحثات عن المعرفة، وللحائرات عند السؤال..،
لم تسعَ للدرجات العلمية تسبق اسمها في علوم الدنيا، ولم تنابز لمقاعد المناصب كي تتباهي بغرور الحياة، ولم تتكالب على الأضواء كي تبرز في محفل، أو كوكبة بين النساء..
أرخت سترها، ثابرت في مكتبتها، وامتلأت بثقة مصدرها، ومنهلها، واحتسبت غذاءها لله، وعطاءها لله،
أوغلت في التبحُّر حتى نالت إجازة الفتوى ، وما أجلّها من رحلة ، وما أسماها من غاية، وما أكرمه فضل الله تعالى عليها..
كانت لها دروسها ، ومجالس ذكرها، ومنهجها المتزن، وتعليمها الجاد، واستقامتها العادلة.
لا تفتي دون إسناد، ولا تجيب دون بيّنة، ولا تقول ما لا تطمئن له النفوس، وتقنع به الصدور، والعقول..
كانت مرجعاً آمناً، وصدقاً لا يأتيه الشك في جواب..
قدوة النساء رحلت،
مضت ..
ظهر الأربعاء نزلت دارها الثانية ،
«موضي الجلهم» الطيبة الكريمة، العالمة الجليلة، شيخة النساء، مفتيتهن ..
القلوب تبكيها وقلبي،
والدعاء يغمرها ودعائي،
والحزن على فراقها يعم، وأفيض به..
نفسها المطمئنة عادت لربها رحمها الله،
فاللهم عوّضها جنانك العليا عن الدنيا،
وارضَ عنها، ومتعها بعفوك، وثبتها برحمتك، وتقبلها بما أنت أهل له من الكرم،
واجبر فقد مريديها، وأهلها، وتلميذاتها، وجميع من عرفها شخصاً، وعلماً، ودليلاً..
رحمك الله رحمة الأبرار يا شيخة النساء،
رحمك الله رحمة الصديقين ورثة الأنبياء،
جعلك الله ممن تقر عينه بعفوه، وغفرانه..
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}..
اللهم اعل ذكرها، ويمِّن كتابها، واجعل علمها صدقة جارية لها ..
وبنور القرآن سيِّرها على صراطك المستقيم ضاحكة مستبشرة مع الذين لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون..
وإنا إلى ربنا لمنقلبون، وعلى فراقك لمحزونون.