اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
إن قَدَرَ المملكة وقَدْرَها جعلاها محل ثقة العالم الإسلامي وأهلاً لما يناط بها من مسؤوليات ويطلب منها من مهام تجاه الإسلام والمسلمين، فقدَرُها يفرضه عليها احتضانها للأماكن المقدسة إذ إن خدمتها للحرمين الشريفين بوَّأتها مكانًا خاصًّا في قلوب المسلمين لكونها تمثل قِبلةً لهم يؤمُّونها في صلاتهم من مختلف بقاع المعمورة، كما يتوافدون إليها سنويًّا لتأدية ركنًا من أركان الإسلام، علاوةً على مَنْ يقصدها بهدف العمرة والزيارة، وبالنسبة لقَدْرِها فإنه ينبع من إخلاصها لقضايا الأمة الإسلامية، وما تنتهجه من سياسة معتدلة وعلاقة متوازنة نحو محيطها العربي والإسلامي والدولي، ناهيك عن قوتها العسكرية ويقظتها الأمنية ووزنها الاقتصادي وحضورها القيادي، وما لها من دور فاعل على الساحة العربية والإسلامية والدولية، وقيادتها للتحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب انطلقت من هذه القاعدة، وهو تكليف واختيار ترى في الاضطلاع به استجابةً لأوامر دينية وخدمةً لمبادئ وقيم تؤمن بها، وينص عليها ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي التي تحث أعضاءها على التعاون لمحاربة هذا المرض العضال الذي يشكِّل خطرًا على عقيدة الأمة ومصالحها، ويهدد الأمن والسلم الدوليين.
ومن المعروف أن المملكة من أول دول المنطقة التي ابتليت بآفة الإرهاب واكتوت بناره قبل ما يقارب عقدين من الزمن، وتصدت لهذه الآفة، ونجحت في مكافحتها وكانت إستراتيجيتها الأمنية لمكافحة الإرهاب محل إعجاب كل منصف، ومثلاً يحتذى به لما تضمنته هذه الاستراتيجية من إجراءات وقائية وعمليات علاجية، لامست جوهر ظاهرة الإرهاب، وعرَّتها واستقصت أسبابها ومسبباتها، وتعاملت مع المتورطين في هذه الظاهرة بحكمة ووعي، تجلى مردودهما في ضبط التعامل والمعاملة والتحكم في ذلك على نحو يوازن بين متطلبات الغلظة ودواعي المناصحة، دون إغفال تصنيف الحالات وتحديد الفروق الفردية بين أصحابها، كما فعلت المعلومة الحقيقية والافتراضية مفعولها بشأن التحليل والاستنباط اللذين يتم بموجبهما الاستدلال على رعاة الإرهاب من خلال أدواته، والمملكة هي أحد أعضاء التحالف الدولي القائم ضد تنظيم الدولة.
والواقع أن هذا العصر يعتبر عصر التكتلات والأحلاف العسكرية والاقتصادية والسياسية، وليس بمقدور أية دولة بمفردها وقوتها القطرية أن تحافظ على مصالحها العليا، وتنجز ما انعقدت عليه إرادتها من مهام وطنية وأهداف قومية ذات طابع أمني، وهي رهينة سجنها القطري وداخل سياجها الإقليمي الذي ورثته من الاستعمار، وحبتها به الأقدار، مما يتطلب منها أن تضيف إلى قوة الانتماء الوطني قوة الانتماءين القومي والديني لمواجهة العدو المشترك، والحفاظ على المصلحة المشتركة، والأمة الإسلامية كغيرها من الأمم بمسيس الحاجة إلى ضم الصفوف وحشد الجهود طلبًا لاستتباب أمنها وصيانة مستقبلها وتحقيق المزيد من الهيبة والقوة على نحو ما كانت عليه هذه الأمة في صدر الإسلام وعصورها الذهبية، خاصةً وأن هذا الزمن بقدر ما هو زمن العلم والثقافة والتطور التقني والصناعي بقدر ما هو زمن الاتحاد والتكتل في الأحلاف التي تجعل من أعضائها أسرة متكاملة تتعامل بقوة وتكامل مع بعضها البعض، وقد قال الشاعر:
إذا العبء الثقيل توزَّعته
أكف القوم خفَّ على الرقابِ
وقال آخر:
ألم تر أن جمع القوم يُخشى
وأن حريم واحدهم مباح
والتحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب الذي تبنَّته المملكة وبادرت بالدعوة إليه يمثل مطلبًا ملحًّا للدول الإسلامية وتكتلاً يتطلبه واقع الحال للتصدي لهذا الوباء الخطير الذي يستهدف الأمة في أمنها وكيانها، ويشكِّل خطرًا على مستقبل دولها، كما أن التحالف الإسلامي ضد الإرهاب يقطع الطريق على القوى الكبرى التي تبحث عن الذرائع للتدخل في شئون دول الحلف، وتجعل من الإرهاب شمَّاعة لهذا التدخل مع التجني على الإسلام بنسبة الإرهاب إليه، متهمةً الدول الإسلامية بالتخاذل عن مواجهته، وهي أولى بذلك لكون الإرهاب محسوب على دينها وضمن إقليمها، ويفتك بشعوبها، وعن طريق هذا التحالف، تستطيع كل دولة من دوله أن تجد لها علاوة على قوتها قوةً حليفة تتعاون معها في سبيل مصلحة مشتركة يتمتع كل عضو من أعضاء التحالف بنصيب من مردودها دون اشتراط درجة متساوية من المردود أو التماثل في المصالح والعائدات، بل يستفيد الأقل في الإمكانية من صاحب الإمكانية عبر التكامل والتكافل، وينطبق هذا الأمر على التكاليف المدفوعة والمشاق المتحملة مقابل هذا التعاون أو التحالف على قاعدة الإيثار في المغنم والاستئثار بالمغرم، وكما قال الشاعر:
إن الرجال إذا ما أُلجِئوا لجأوا
إلى التعاون فيما جلَّ أو حزبا
وبالطبع فإن المصلحة المشتركة في محاربة الإرهاب أملت على هذه الدول أن تتحالف لكي تتعاون معًا للتغلب على هذه الآفة بعمل جماعي يمكِّنُها من توفير الجهد واختصار الوقت والاقتصاد في التكاليف في سبيل مصالح حيوية لا تتردد الأمة في بذل الغالي والنفيس من أجل الحفاظ عليها، والتحالف يحقق أكبر مغنم بأقل مغرم، ويدرأ عن الأمة خطر يتربص بها بين لحظةٍ وأخرى دون أن تدرك كنهه ومكان وزمان حدوثه.
ووفقًا لما وضحه سمو ولي ولي العهد وزير الدفاع في مؤتمره الصحفي الذي تحدث فيه عن إنشاء تحالف إسلامي ضد الإرهاب، مؤكدًا أن هذا التحالف لم يكن مقصورًا على المجالين الأمني والعسكري فحسب، وإنما يشمل المجالات الفكرية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية بوصف دور هذا التكتل تفعيلاً لدور منظمة المؤتمر الإسلامي وتطويرًا لمهامها وطبيعة عملها وما نص عليه ميثاقها، سعيًا وراء دعم الأمن المشترك للدول الإسلامية وتفعيل سياساتها القومية من خلال قياس عناصر القوة الوطنية لكل دولة على ضوء التهديد الأمني الذي تتعرض له والاستفادة من دول الحلف الأخرى عبر تبادل الدعم بين هذه العناصر بصورة جزئية، وتجسيد ذلك في شكل تكاملي ضمن إطار الانتماء الإسلامي الجامع المانع مع تبادل الخبرات والتخصصات على النحو الذي يخدم هذا الحلف.
كما تطرق سموه في حديثه إلى أن التحالف لا يستهدف تنظيمًا إرهابيًّا بذاته بل يستهدف كل مَنْ ينطبق عليه مفهوم الإرهاب، ويقع في دائرة الاهتمام ومجال الاستهداف لدول التحالف، وهذه نقطة جوهرية تعتبر في غاية الأهمية، إذ إن الإرهاب الذي يرتدي رداء الإسلامي أو أُريدَ له ذلك ليس حكرًا على الفكر السلفي كما يُروِّج له أعداء الإسلام السني وإنما ينطبق مفهوم الإرهاب على تنظيمات ذات فكر شيعي، يرعاها دول وأنظمة طائفية تتبنَّى مشروعًا طائفيًّا، فالممارسات التي يمارسها النظام السوري وحزب الله اللبناني والتنظيمات الشيعية العراقية في سوريا، واقترافات الحشد الشعبي في العراق، وجرائم الحركة الحوثية وقوات المخلوع التي تُرتَكَبُ في اليمن، كل هذه الجرائم لا تقل بشاعةً وفظاعة عن جرائم تنظيم الدولة، والفرق بين تنظيم الدولة والأطراف الأخرى هو أن تنظيم الدولة مصنوع ومنسوب إلى السلفية، وكل من اقترف جريمة جعل منه شماعة ونسبها إليه، وتمدُّده والتشهير بممارساته على قدر الاستفادة منه من قِبَل من صنعه ورعاه، والنظام الصفوي الفارسي والأنظمة والتنظيمات التابعة له ترعى الإرهاب وتمارسه في العلن كما تمارسه في الخفاء، منتحلةً اسم تنظيم الدولة بهدف الإساءة إلى الإسلام السني وتشويهه والإيقاع بالمنتمين إليه وإيجاد المبرر لاستهدافهم من قِبَل القوى التي بعضها يحارب الإرهاب والبعض الآخر يدَّعي محاربته وهو يحارب غيره لحاجة في نفس يعقوب، وهذه القوى ترى في المشروع الصفوي ما يحقق أهدافها ويخدم أغراضها في المنطقة، حيث يلتقي هذا المشروع مع المشروع الإسرائيلي، وبين هذين المشروعين يوجد تنظيم الدولة التكفيري الذي يتسمَّى بالإسلام وهو أبعد ما يكون عنه، والأطراف الثلاثة بينها تخادم في الأهداف وتقاطع في المصالح على حساب الأمتين العربية والإسلامية.
ومن منطلق أن التحالف تأسس لمحاربة الإرهاب فإنه تلقائيًّا يحارب الطائفية بوصفها أحد مغذياته وعلى هذا الأساس فقد صح العزم من القائمين عليه أن يضعوا نصب أعينهم مواجهة الإرهاب بجميع أشكاله وألوانه، ومهما كان فكره الذي يعتنقه دون التحيز إلى مذهب على حساب آخر أو استلطاف ملَّة مقابل استهداف أخرى، مدركين أن مقاومة الإرهاب بالوسائل المشروعة بشقيها الناعم والعنيف تعتبر حقًّا مشروعًا ودفاعًا عن النفس، والجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان، والحيلة أجدى من الوسيلة، ولن يتأتى ذلك إلا بقيام أهل الذكر وأرباب الفكر والحكماء والخبراء من الدول المتحالفة بتقويم واقع هذه الدول والمبادرة نحو الإصلاح الداخلي ونشر الوعي الاجتماعي، وفي الوقت نفسه تتبنَّى نهجًا إسلاميًّا معتدلاً لا مكان فيه للفكر المتطرف والرؤية المنحرفة مع وضع مشروع فكري ثقافي يدحض المشاريع الخارجية والاهتمام بوسائل الإعلام بشتى أنواعها ومجالات عملها حرصًا على مقارعة الفكر بالفكر واستئصال كل ما هو إرهابي والقضاء على مصادره وتحجيم تأثيره.
وعلى الصعيد الأمني فإنه لابد من رصد حالة الأمن في كل دولة على حده وتحديد التهديدات الإرهابية والتحديات الداخلية والخارجية التي يتداعى لها الإرهاب بما في ذلك تحديد مواطن القوة ومكامن الضعف على هذا الصعيد، وبالتالي تهيئة الظروف لتعزيز الأولى وتحييد الثانية، واستباق وقوع أي تهديد محتمل بالوقاية والمعالجة، عن طريق تقوية أمن التهديد للتصدي لتهديد الأمن ووقوف الأول في وجه الثاني وصولاً إلى إحلاله محله، بفضل حساب عامل الوقت وعامل المسافة وحشد القوة المطلوبة في المكان والزمان المناسبين على النحو الذي يستطيع معه كل من المخطط والمنفِّذ أن يحسب للأمور حسابها ويضعها في نصابها مُوَفِّقًا بين الإمكانات والطموحات، ومركِّزًا على تبادل المصالح مع الدول ذات المصلحة، ومستفيدًا من الأحلاف الناجحة.
وتأسيسًا على ذلك فإنه يتحتم على كل دولة أن تراجع كشف حساباتها وتتخذ قراراتها نحو التخلص من المنغصات الداخلية ومعالجة الحالات الاجتماعية التي قد تكون سببًا في انضمام بعض المغرَّر بهم إلى التنظيمات الإرهابية أو التعاطف معها معنويًّا أو ماديًّا، كما يلزمها تكريس أي نشاط يترتب عليه نضوب الخزان البشري للإرهاب ومنع تمويله المادي من خلال السيطرة على الثغرات الأمنية التي يتسلل عبرها المغرر بهم أو يتسرب عن طريقها التمويل، حيث إن الأمن المتبادل بين دول التحالف يوفر مراقبة إضافية من الخارج يصعب توفيرها من الداخل بما فيه التأكد من تجفيف منابع تمويل الإرهاب وحرمانه من مصادر دخله.
ويدخل في إطار محاربة الإرهاب رفض التحريض ونبذ كل ما يثير الكراهية في الداخل واستمالة الأقوام في الخارج وتصحيح المفاهيم الخاطئة لديهم عن الإسلام مع وضعهم في الصورة الصحيحة عن سماحة الإسلام ووسطيته، واعتباره أبعد ما يكون عن العنف والإرهاب، ومن التجني والظلم نسبة ذلك إليه لكونه دين الاعتدال والمحبة والمعاملة الحسنة، ومن الخطأ وسوء الصنيع أن تُرْمَى نقائص البشر وآفاتهم عليه.
ونجاح مكافحة الإرهاب وتوحيد الجهود ضده مرهون بالاتفاق على تعريف الإرهاب تعريفًا محددًا لا يقبل اللبس في المعنى، ولا يحتمل الغموض في المفهوم، وهو فعل جُرْمِي غير مبرر شرعًا بصرف النظر عن مستوى الجهة التي تمارسه، وهذا الفعل غير المشروع له شروط لا مندوحة من توفرها حتى يتحقق انطباق وصف الإرهاب على الموصوف الذي هو الفعل الممارَس، وبالتالي خضوعه لمواد الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة مع الأخذ في الحسبان التفريق بين الإرهاب وحق المقاومة، وكلما ساد التعاون البنَّاء والعمل المخلص داخل الحلف كلما تمكَّن أعضاؤه من دفع عجلته إلى الأمام لبلوغ أهدافه المنشودة، بالشكل الذي يمهِّد الطريق له لأنْ يستقر ثم ينمو ويزدهر.