اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
ليس ثمة روابط انتمائية بعد الروابط الدينية، أقوى من الروابط الوطنية، ولا صلات حياتية جامعة تعادل صلات الوطن، ومن يحسن الانتماء إليه، يستغني عن النسب، واستحقاق الإنسان في الحياة مرهون بكرامة وطنه، والانتماء القومي يتجاوز مفهوم الانتماء الوطني بالنسبة للوطن الواحد والشعب الواحد إلى مفهوم الأمة كما هو الحال على مستوى الأمة العربية والانتماء المذهبي الذي تبنته إيران وروجت له في المنطقة دفع أذرعها إلى التنكر لانتماءاتها والارتماء في أحضان إيران لاعتبارات مذهبية، ودوافع طائفية، والويل والثبور وعظائم الشرور، تتربص بمن اعتنق مذهباً فاسداً على حساب دينه، وانسلخ من انتمائه الوطني والقومي متعسفاً انتماءً ظالماً ومقترفاً عملاً آثماً.
وقد ابتعدت أذرع إيران في المنطقة العربية بحكم تطرف مذهبها، وخبث مشربها عن انتمائها الصحيح واختارت الانتماء القبيح، وبدلاً من أن تسلك جادة الصواب وتنتمي إلى أوطانها وأمتها العربية في إطار مذهبها المعتدل ودينها النقي، تنكبت هذه الجادة، وجعلت من ولاية الفقيه قبلة لها، وغالت في الاقتداء بها، ومراعاة رغباتها والإذعان لأوامرها على حساب أوطانها ومواطنيها، حتى أنها خذلت الجميع وتجنت عليهم، وارتكبت في حقهم أبشع الجرائم وأسوأ المآثم، إشباعاً لطائفيتها ومذهبيتها، وإرضاء لأسيادها وولاة أمرها في قم.
والانتماء المذهبي الذي يُخرج المنتمي إليه عن جوهر الانتماء الديني، وينسف الانتماء الوطني والقومي، ويتعارض معها، ويجعل هذا المنتمي عالة عليها وعاقاً لها، يعتبر تعصباً مرفوضاً، وانتماءً ظالماً، وعملاً آثماً، لخروجه عن قاعدة الانتماء الجامع والانتساب الصحيح، وذلك داخل حدود الوطن الواحد والأمة الواحدة، فكيف إذا كان الانتماء خارج حدود الوطن والهوية القومية، وقائماً على تطرف مذهبي ومغلفاً بغلاف طائفي والمنتمون إليه رهنوا مصيرهم بمصير بلد أجنبي، وقومية ليست قوميتهم، وأمعنوا في قتال أبناء جلدتهم ووطنهم بأوامر أجنبية، أليس قميناً بالانتماء الممعن في الجور، والداعي إلى النفور أن يوصف بأنه ظالم، والمنتمي إليه آثم، طالماً أنه أفضى بهذا المنتمي إلى درك المهانة وحضيض المكانة وزيّن له إفساد دينه، وعقوق وطنه ومحاربة أمته وقد قال الشاعر:
إن بعت ديناً بدنيا قصد منفعة
وإن تبع وطناً فالكفر سيان
عقيدة كتب الأجداد صفحتها
وسجلتها عصور بالدم القاني
وقال آخر:
هي الأوطان تحمى أو تفدى
ولم أر قبل أوطاناً تباعُ
وهذه الأذرع فقدت خاصية الإنتماء إلى أوطانها، وتعرّت أمام أمتها، لأنها شوهت الإنتماء وتحلّلت من لزومياته وشروطه، فلا ولاء للأمة، ولا صدق إنتماء للأرض ولا إلتزام إتجاه الوطن والشعب، ولم تكتف بهذا الجحود والكنود، ولم تقتصر جنايتها على الأقوال والممارسات السرية، بل تجاوزت ذلك إلى حمل البندقية وخوض القتال تنفيذاً لأجندة الأعداء ونيابة عنهم، وسبب هذا يعود إلى النزعة الطائفية وفساد الانتماء الديني، وغياب القيم والمثل المرتبطة به، وما نجم عن ذلك من التعصب الظالم، وإرتداء جلباب المذهبية المنسوج من قبل ألد أعداء الأمة، دون أن يدرك هؤلاء القوم حالة التيه والضياع التي يعيشونها، والخطر الذي يتربص بهم، والمصير المؤلم الذي ينتظرهم على يد العدو الفارسي الذي امتطاهم، واستغلهم ضد أوطانهم وأمتهم، شأنهم شأن المتآمرين في كل زمان ومكان.
والأذرع الإيرانية في المنطقة العربية انطلقت من منطلق مذهبي، وبُنيت على أساس طائفي، وغالبيتها تمثلها التنظيمات العراقية، وقد تأسس بعضها خلال الحرب العراقية الإيرانية مثل منظمة بدر التي قاتلت إلى جانب إيران في هذه الحرب، متنكرة لانتماءاتها الدينية والوطنية والقومية، ومعظم الميلشيات الحالية الموجودة على الساحة العراقية تشكلت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق وتسليمه هذا البلد لإيران على طبق من ذهب، وتركه لقمة سائغة يسهل ابتلاعها من قبل نظام الملالي، ممهداً لذلك بتأجيج الطائفية عن طريق إيجاد عوامل إثارتها ومصادر تغذيتها، والشواهد على هذا الأمر تتضح من واقع الدستور ونظام الحكم بالمحاصصة وقانون إقتلاع البعث، والتوطئة للإرهاب والعنف بإيجاد أسبابه وتغذية عوامله، وهي عوامل تصب ضد السنة، وتتفق مع ما تروج له إيران ويخدم مشروعها، وبفضل هذا الإحتلال نشطت النزعة المذهبية وبُعْدها الطائفي، واستغلت إيران والتنظيمات المرتبطة بها فرصة الفراغ الأمني وغياب الحس الوطني وفتح الحدود بين البلدين من أجل العزف على الوتر الطائفي وتحريك مكامن البعد المذهبي، على النحو الذي ساعد على تكوين هذه التنظيمات وعزز وجودها، وأكثرها تطرفًا منظمة بدر وحزب الله العراقي وعصائب أهل الحق ولواء أبي الفضل العباس وغيرها، وكلها ذات ارتباط مع إيران بشكل أو بآخر، وتمثل أذرعاً لها إذا ما دعت الحاجة، وتتلقى دعماً سخياً منها، والتنظيمات الكبيرة ينبثق منها، ويدور في فلكها تنظيمات صغيرة يقدر عددها ما بين أربعين إلى خمسين تنظيماً، وهذه التنظيمات التي تتنافس على طاعة الولي الفقيه، وتتسابق من أجل التقرب إلى الملالي ضد أوطانها وأبناء عمومتها أين هي من قول الشاعر:
الحر يأبى أن يبيع ضميره
بجميع ما في الأرض من أموال
شتان بين مصرح عن رأيه
حر وبين مخادع ختال
وترتيباً على ذلك فإن إيران استطاعت بناء شبكة من الميلشيات الموالية لها في العراق، وعززت وجودها في هذا البلد إلى الحد الذي جعلها من خلال هذه الميليشيات قادرة على تحقيق أهدافها، ليس في العراق فحسب، بل في أماكن أخرى كما هو الحال في سوريا، وهذه التنظيمات التي ترعاها إيران، وتتعهدها بالدعم، لم تكن هذه الرعاية، ولم يكن هذا الدعم جديداً، وإنما مضى عليه حقب زمنية حيث رسمت إيران لهذه التنظيمات خطاً أيديولوجياً وفكرياً يخدم أمنها القومي ويوفر لها مجالاً حيوياً على حساب دول المنطقة وهو أمر ما كانت تحلم به لولا وجود أذرعها التي تمحضها الولاء المطلق وتخلص لها أكثر من وطنها الأصلي حتى أنها جندت جنودها وسخرت إمكاناتها على نحو يمكِّنها من أن تكون وكيلاً وفياً لنظام الملالي، ورهناً لإشارته وأدوات لتنفيذ إرادته، بالشكل الذي طغى على الانتماء الوطني والقومي لهذه التنظيمات، وشعارها المرفوع هو الدفاع عن المقدسات والمراقد والأقليات الشيعية، متخطية في سبيل ذلك حدود المكان وقيود الهوية الوطنية والقومية، ومن هذا حاله ينطبق عليه قول الحق تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}. وقد قيل: النفوس الذليلة لا تجد ألم الهوان.
وعندما اندلعت الثورة السورية، واحتدم الصراع بين النظام الحاكم والمعارضين له، وجدت إيران فرصتها، وأنفسح لها المجال لاختبار صنائعها، وقطف ثمار مشروعها، واستغلت أذرعها ووكلائها في العراق لنجدة حليفها وذراعها الرسمي، وتدفق هؤلاء القوم على سوريا لمناصرة النظام النصيري والقتال نيابة عنه، متخذين من المذهبية دثاراً، ومن الطائفية شعاراً، مع استخدام الدثار لإخفاء الشعار تحت غطاء حماية المقدسات ومحاربة الإرهاب وقد تحقق للصفوية الفارسية ما أرادت، وأصبحت سوريا مسرحاً لهذه الميلشيات التي انقضت على الشعب السوري، وحرفت مسار ثورته وأمعنت في ارتكاب الجرائم في حقه ومؤازرة النظام القاتل ضده، كما فتحت الباب على مصراعيه أمام الإرهاب المحلي والوافد لقتل المواطنين وتدمير الوطن وإطالة أمد الصراع.
والمشروع الصفوي الطائفي رغم أنه في الأساس رؤية إيرانية، تولت تنفيذها بالوكالة أقليات غارقة في ذنوبها وخارجة على إجماع شعوبها، إلا أن بصمات أطراف الاتفاق النووي ظاهرة على حيثياته، وما تخلل مفاوضاته من مساومات ومقايضات أدت في النهاية إلى الاتفاق، وانعكس تأثيرها على شكل ومحتوى المشروع وآليات تنفيذه، حيث يتضح من السياق أن تخلي إيران عن امتلاك السلاح النووي مشروط بإطلاق يدها في المنطقة وامتداد نفوذها على حساب جوارها العربي، وهذا يعني اعتراف إيران أمام المتفاوضين بأنها دولة ذات طموح غير شرعي، يعتمد تحقيقه على الاعتداء على حقوق الآخرين والعبث بأمنهم واستقرارهم، وامتلاك السلاح النووي هو الضمانة لبلوغ ذلك، وتريد الالتزام لها من قبل القوى الكبرى المتفاوضة معها، بضمان ما تهدف إليه من التوسع والهيمنة، مقابل التنازل عن برنامجها النووي، وتوقيع الاتفاق يعتبر موافقة لها على أهدافها، ومنحها صكًا من القوى الكبرى والأمم المتحدة يسمح لها بتنفيذ مشروعها وممارسة العنف والإرهاب.
والناظر إلى ما وراء الستار يتجلى أمامه مشروع آخر هو المشروع الإسرائيلي، وبتدقيق البصر وإمعان البصيرة يستدل هذا الناظر على أن المستفيد الأول هو الكيان الإسرائيلي، حيث إن إيران ومشروعها ما هي إلا أداة من أدوات تنفيذ المشروع الإسرائيلي، كما أن المفاوض الأمريكي يتبنى الرؤية الإسرائيلية على نحوٍ يفيد إسرائيل ويضر أمريكا، وإذا ما استمر سير الأحداث في هذا الاتجاه فالتدمير سيعم المنطقة بما فيها إيران، ومصالح دول التفاوض سوف تتضرر، وسوف يكون الأمن والسلم الدوليين عرضةً للخطر؛ نظرًا لاستفحال الإرهاب، وقد تكون إسرائيل هي الرابح لفترة معينة ثم ينقلب السحر على الساحر.
واضطلع المالكي إبان فترة رئاسته بدورٍ كبير في إنجاز المهمة المكلف بها حسب المخطط المرسوم له من قِبَلِ رعاته، بما يخدم المشروع الإسرائيلي والإيراني في المنطقة، ونجح بالتعاون مع النظام السوري في التشويش على الثورة السورية وتحويلها عن مسارها، وذلك بنسبة الإرهاب إليها من خلال مؤامرة متشابكة الخيوط ومتعددة الأبعاد، يعتبر تنظيم الدولة المنفذ الأساسي لها؛ حيث استطاع هذا التنظيم في زمن قياسي من أن يتمدد في مساحة واسعة من الأرض السورية، ثم قفل راجعًا ليتمدد في العراق بعد أن انسحب الجيش العراقي من الموصل، وترك أسلحته غنيمةً لهم، وبعد مضي سنة تكرر المشهد في الرمادي بتدبير من المالكي نفسه واستفحل أمر التنظيم محققًا هدف الأطراف الراعية له، وفي الوقت نفسه وجدت فيه الأطراف المتربصة بالمنطقة بغيتها، وأصبحت سوريا والمحافظات السنية في العراق حواضن للإرهاب، وبالتالي توفر المبرر لاستهدافها، ووضعها بين فكي كماشة تنظيم الدولة من جهة وقوات النظامين السوري والعراقي وميليشياتهما والمناصرين لهما من جهة أخرى، وشكلت هذه المرحلة نقطة مفصلية وتحولًا بالغ الأثر والتأثير على مجريات الأحداث في سوريا والعراق، الأمر الذي أتاح لرعاة الإرهاب النفخ في بالون التنظيم وإضفاء الطابع الدولي على مكافحته لتزداد الضريبة التي تدفعها شعوب المنطقة، كما أراد هؤلاء الرعاة له أن ينمو ويتمدد تحت مظلة المكافحة المزعومة حتى تتحقق الأهداف الاستراتيجية من وراء ذلك.