اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
وفي ظل هذا الوضع الجائر والتصرف الغادر حُكم على سوريا والمناطق السنية في العراق أن تكون مسرحاً لقتال ليس للقاطنين فيه لا ناقة ولا جمل، بل فرض عليهم ذلك من أطراف تتناوب على قتل المدنيين في عقر دارهم أكثر مما تتقاتل فيما بينها، وكأن هدف القتال المعلن، يختلف عن الهدف الحقيقي وأن ثمة قاسم مشترك يجمع بين الأعداء وهذا القاسم المشترك هو تصفية السنة العرب، وتغيير خريطة المنطقة، والمسرح السوري تداخل مع المسرح العراقي وضحية هذا التداخل هم المدنيين العزل، وتشكل في العراق ما يعرف بالحشد الشعبي بعد فتوى الجهاد الكفائي وتحول هذا الحشد إلى مؤسسة انضمت إليها جميع التنظيمات الشيعية، ومنحها العبادي غطاءً رسمياً بعد إصداره قراراً بتشكيل هيئة مستقلة لذلك، وهي ليست مجرد إضافة إلى الدولة بل هي الدولة، وليس للحكومة الرسمية سلطة فاعلة عليها، وإنما مرجعيتها تعود إلى زعمائها الدينيين أو طهران، ويقال بأن تعداد هذا الحشد يتراوح بين 350 إلى 400 ألف مقاتل، ويتردد في هذه الأيام أخبار مفادها أن النظام العراقي حتى يكون له على هذا الحشد سيطرة ولو صورية سوف يصدر أمرًا باعتباره هو القوات المسلحة وتعود إليه المرجعية العسكرية والقوات العسكرية السابقة تنضم إليه، وتذوب في داخله، وهنا يضع النظام العراقي حجر الأساس لتمثال الطائفية والعنصرية.
ويمكن القول بأن الطائفية المذهبية صار لها القول الفصل في العراق وانتصرت على الوطنية وطغت عليها، وأصبحت سيادة العراق وقوميته العربية في مهب الريح، وتحول حاميها إلى حراميها، حيث كرست حكومة العبادي ما صنعته حكومة المالكي من حيث تبنِّي الطائفية والدعوة إليها، واستبدال القوات الأمنية والعسكرية ذات الطابع الوطني بميلشيات الحشد الشعبي، وعلى هذا الأساس انهزم جيش العراق نفسياً ومعنوياً وفقد موروثه الوطني والقومي وأصبح مصير أسلحته ومعداته إلى النهب تارة والسلب تارة أخرى بين تنظيم الحشد الطائفي وتنظيم الدولة المصنوع، وصار المدنيين العزل بين سندان إرهاب تنظيم الدولة وبين مطرقة إرهاب ما يعرف بالحشد الشعبي وممارسات الطرفين متفق عليها من أطراف أخرى، وهدفها النهائي هو التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي من جهة وتوسع إيران على حساب الجوار العربي من جهة ثانية وخدمة إسرائيل من جهة ثالثة.
وآلت الأمور إلى ما آلت إليه من التدخل الروسي ونشوء الحلف الشيعي الشيوعي، وتحولت الأرض العراقية والسورية إلى مسرح للغزو والاحتلال؛ فالروس والفرس يحتلون سوريا، والعراق شبه محتلة من الفرس، وهناك شريك لهما في الاحتلال يتمثل في تنظيم الدولة الذي يحتل معظم الأراضي السورية والعراقية، وهذا ما هو إلا نتيجة من نتائج الانتماء التعسفي إلى نظام الملالي وقبول مشروعها الطائفي من قبل النظامين السوري والعراقي والتنظيمات الشيعية التابعة لهما.
والحلف الرباعي الجديد الذي يضم محور المقاومة، وتشارك فيه روسيا ويستظل في ظل تدخلها في سوريا، بادر إلى مد اليد لإسرائيل وأصبحت تنسق معه في الظاهر وتشارك فيه في الباطن، الأمر الذي كشف عن حقيقة هذا المحور واستبان للجميع النهج الباطني لهؤلاء القوم وعداوتهم للأمة العربية والإسلامية، وأن المستهدف من القتال على كلٍ من المسرحين السوري والعراقي هو العرق العربي والمذهب السني، بينما تنظيم الدولة خارج الاستهداف، واستهدافه من قبيل الخداع وذر الرماد في العيون، والأكراد ضمن دائرة التنسيق في سوريا بالنسبة للروس، وبالنسبة للعراق فإن النظام يدعم المكون الشيعي ويستلطفه، في حين يستهدف المكون السني ويجعل منه هدفًا للغزاة.
وليس من المستغرب أن تلتقي الصفوية الرافضية ومن شايعها من الأنظمة العربية الطائفية مع الشيوعية الماركسية، فالمبادئ متشابهة وثوابت الحكم متشاكلة، ولكن الأمر المستنكر هو أن تنساق دولة لها وزنها في التوازنات الدولية وراء الطائفية، حاشرةً نفسها في تجمع شاذ له أهداف شاذة، بحيث يحرضها لخوض حرب عبثية ظالمة، خلقت بموجبها عداوة مع الشعب السوري والأمة العربية والإسلامية، كما لا يستغرب تناغم الفكر الصفوي الرافضي مع الفكر العنصري الصهيوني في العلن، بعد أن أمضى الطرفان زمنًا طويلًا من التفاهم في الخفاء، وإنما الأمر الشاذ هو مناصرة أنظمة وتنظيمات عربية للأجنبي والتحالف معه على حساب دينهم وأمتهم وأوطانهم.
والمتتبع للمشهد على مسرح الأحداث في العراق وسوريا؛ إذا ما قرأ ما يوحي به وما قد يستنتج منه على ضوء خلفيات هذا المشهد واحتمالاته، تظهر أمامه الصورة قاتمة والآفاق مظلمة فيما يتعلق بمستقبل هذين البلدين من حيث احتمالية التقسيم واستمرار سفك الدماء، واقتسام الأمريكان والروس وشريكيهما الإسرائيلي والإيراني للمغانم وترك المغارم يتجرعها أبناء البلدين والأحرار من العرب والعملاء مثل الأيتام على مائدة اللئام، وهذا الواقع المؤلم الذي يتجسد على أرض الشام وبلاد الرافدين واليمن ما كان له أن يكون لولا هذه الأذرع التي باعت كرامتها وجارت على أمتها، حتى وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه من القتل والتهجير والتدمير على نحوٍ ينذر بأن تركيبة السكان وجغرافية المكان مهددتان بالتغيير والتدمير.
ويعتبر حزب الله في لبنان والحوثيون في اليمن من أقوى أذرع إيران في المنطقة وأكثرها ولاءً وإخلاصاً للولي الفقيه إلى الدرجة التي دفعت الطرفين تنفيذاً لأوامر صادرة إليها من قم أن يخوض أحدهما حرباً ضد الشعب السوري، والآخر يشعل حرباً ضد أبناء وطنه، وكل من الطرفين يمارس صراعاً مسلحاً أهدافه ظالمة، ونتائجه مريرة، فهذا يقاتل جاره وأقرب الناس إليه ظلماً، وهذا يقاتل شعبه وأهله سفهاً، وهو قتال لا طائل من ورائه، والمستفيد منه هو إيران الأمر الذي يكشف عن ما يعانيه هؤلاء القوم من عمى في الأبصار، وعمه في البصائر حتى وصل بهم الطيش والسفه إلى تأليه بشراً ممَّن خلق، واعتباره معصوماً وأمره مطاعاً، استناداً إلى خرافات وخزعبلات يمقتها العقل ويتبرأ منها النقل، ولا ينساق معها إلا السفهاء والرعاع من الناس، ومن الخفة والطيش التعصب للانتماء الصحيح والأمر المشروع فكيف بمن يتعصب لمن لا يصح التعصب له، ويوالي الأعداء ضد الأصدقاء بذرائع مذهبية هابطة وحجج طائفية ساقطة.
والنظام الإيراني يتخذ من هذه الأذرع نعالاً ينتعلها، ومطية يمتطيها، ليُشَرْعِنَ بها باطله، ويحقق من خلالها أهدافه ومآربه، ويوظف بعض العملاء لخدمة مشروعه المذهبي والتوسعي، والأهداف القريبة بالنسبة له تكمن في توفير أمنه القومي وامتداد مجاله الحيوي، في حين تمثل أهدافه البعيدة المَسْك بناصية القضايا الإقليمية والسيطرة السياسية والاقتصادية، لتدعيم استراتيجية نشر المذهب وتصدير الثورة، وضمان نجاحها كما خطط لها، والمتآمرين دائمًا إذا ما انتهى دورهم وانتفت الحاجة إليهم، فالدور يقع لا محالة على من خان أمته وباع وطنه، وواقع حاله مثل الذي يسرق من مال أهله، ويعطيه للصوص، فلا الأهل يسامحونه ولا اللصوص يكافئونه.
وفي حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران عندما كانت بلاد الرافدين تحمل مشعل الانتماء القومي العربي، وترفع راية الوطنية وجيشها العربي الأصيل يمثل الأمة العربية ويقاتل باسمها وتحت رايتها، حاميًا حماها، ومدافعًا عن بوابتها الشرقية ضد الفرس المجوس، كان وقتها ثلثي القوات المسلحة من أبناء العراق الشيعة، وتنطلق هذه القوات في قتالها من منطلقات دينية وقومية ووطنية، حققت لها النصر ودفعت العدو الفارسي إلى قبول ما يشبه الاستسلام والقهر، فما الذي حصل حتى انقلبت الموازين وتحولت إيران من خصم ضعيف يتشبث باتفاقية الجزائر عام 1975، ويستجدي السلام متجرعًا فقيهه السم إلى محتل يسرح ويمرح على أرض العراق، مفتخرًا باحتلال بغداد ومعتبرًا العراق داخل مجاله الحيوي؟ والجواب على هذا الاستفهام هو أن تبني الأذرع للانتماء التعسفي والمشروع الطائفي أدى إلى تقويض القومية العربية وتفتيتها وإحلال الطائفية محلها، والأمة لا يقوم لها قائمة إلا بفضل المحافظة على الانتماءات الدينية والقومية والوطنية، مع التمسك بعقيدتها والتفاف كيانها الاجتماعي حولها، بوصفها بمنزلة القلب من الجسم، وتيارها يشابه التيار الكهربائي داخل مصباح الإضاءة، ومثلها مثل الوقود لآلة الاحتراق، ولن يتأتى لها النهوض مما هي فيه من السقوط ما لم تلتزم بدينها وتحترم قوميتها وتقدس لغتها التي نزل بها القرآن، فالقرآن عربي الآيات والنبي العربي رسالته خاتمة الرسالات، وعلى أرضها قبلة المسلمين وأشرف المقدسات، ووجود الإسلام لا ينفك عن وجود الأمة التي لغتها نزل بها القرآن وقبلتها مكة عربية المكان ونبيها عربي التراث والموروث، ولن يفتات على ذلك أو يتنكر له منصف، إلا إذا ما تنكرت الأمة لنفسها ونسيت حقيقة دينها وتاريخها، فسينطبق عليها قول الشاعر:
إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها
هوانًا بها كانت على الناس أهونُ
وقمين بالأقليات المذهبية في الدول العربية أن تحافظ على مكانها في النسيج الاجتماعي داخل إطار الانتماء الكلي على نحوٍ يخدم الانتماءين القومي والوطني دون أن تفتات على الأكثرية، وتتجنى عليها، جاعلةً من أقليتها الانتمائية حجة للتعصب والتنصل من وطنيتها وقوميتها لصالح قوميةٍ أخرى مثلما فعل أولئك الذين آثروا الانتماء مذهبيًّا إلى إيران بصورة فيها من التعسف والشذوذ ما لم يقبله عقل وما يعنيه ذلك من تشويه الانتماء المذهبي والانحراف به عن مفهومه الصحيح، الأمر الذي يتطلب من هذه الأقليات أن تراجع حساباتها، وأن تنأى بنفسها عن هذا السلوك الخاطئ، كما يتعين عليها عدم الانسياق مع المشروع الطائفي الصفوي الذي تسعى إيران إلى تصديره وفرضه على المنطقة.
وفي هذه المرحلة المصيرية من تاريخ الأمة العربية، وهي مرحلة مثقلة بالفتن والمحن التي تشكل امتحانًا للأمة العربية وقدرتها على البقاء، وتضامن هذه الأمة مع بعضها ونهوضها من كبوتها لن يتحقق من خلال الجامعة العربية في وضعها الحالي، هذه الجامعة التي لم تستطع تفعيل مؤسساتها ومعاهدة دفاعها المشترك ولم تجمع الأنظمة الحاكمة، فكيف يرجى منها أن تجمع الشعوب، وقد آن الأوان للدول العربية أن تدرك أن الدولة القطرية لا يمكنها مواجهة التحديات بشكل منفرد، بل لا غنى عن تكتل فاعل يجمع بين الانتماء الوطني والانتماء القومي في إطار الانتماء الديني، مع استثمار ما يجمع الأمة العربية من عوامل انتماء، لا تتوفر لغيرها من الأمم، ورغم ذلك لم تُستَغَل على النحو الذي يؤسس لنظام عربي يستطيع إصلاح ذاته والسيطرة على أقلياته وتجاوز أزمة الثقة بين الشعوب والأنظمة، والتعامل مع الحالة البائسة التي وصلت إليها الأمة بالعمل على ردم هوة التناقض بين الحكومات الرسمية والقاعدة الشعبية، ومبايعة النفس في سبيل الأديان والأوطان، ولله در القائل:
وطعم الموت في أمرٍ صغير
كطعم الموت في أمرٍ عظيم