اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
تشكل الغاية القومية لأية دولة ركيزة من الركائز الأساسية لسياستها الداخلية والخارجية، بحيث تنبثق من هذه الغاية مجموعة من الأهداف القومية والمهام الوطنية، وتتمحور حولها مختلف النظريات والأفكار المرتبطة بالسياسة القومية ذات التأثير المباشر وغير المباشر في شتى المجالات الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، والعسكرية، وكل ما له علاقة باستقرار الدولة وتطلعات شعبها، واستناد هذه الغاية إلى المرجعية الدينية للدولة، واسترشادها بالإرث التاريخي، يكون ذلك قائدًا لها نحو الاعتدال والوسطية والالتزام بالمبادئ والقيم الفكرية، بعيدًا عن التطرف والمغالاة والجنوح إلى الخيال، كما هو الحال بالنسبة للدولة العبرية التي لا يُقيِّد غايتها قيودٌ، ولا يحدها حدودٌ، بل أطلقت لها العنان منذ نشأتها على أرض فلسطين وجعلت من قوميتها اليهودية قبلة لها، وغاية نهائية تستحوذ على جُل اهتمامها، فتارةً تُنقِّب عنها في توراتها، وتارةً ثانية تتخذ من التوراة حجة للمناداة بها والدعوة إليها، وتارةً ثالثة تدَّعي محاكاة السلف فيما يتعلق بالحقوق التاريخية المزعومة والوعود التوراتية المكذوبة، كما بلغت المغالاة بها حدًّا جعلها تقدس الحرب من أجلها، وتستحل ممارسة العنف المطلق في سبيلها، معتبرةً غايتها القومية المحرك الحقيقي لشئون حياتها وسياستها في الداخل والخارج، مع الربط بين هويتها القومية وعقيدتها الدينية وتحويل العقيدة إلى نظرية سياسية تمتطيها نحو أهدافها القومية، وتتذرع بها لتحقيق مآربها مهما كانت طبيعتها ومشروعيتها.
وثمَّة من الدول مَنْ تقتصر غايتها القومية على استمرار بقائها والمحافظة على سيادتها وسلامة أراضيها وضمان رفاهية شعبها، وهناك دول أخرى تذهب بهذه الغاية إلى أبعد من ذلك، بحيث تكون غايتها القومية عنصرًا متحركًا ومتطورًا على النحو الذي يخلق أمامها غايات ثانوية تفتح لها آفاقًا بعيدة، تساعد على بلوغ غايتها القومية الأساسية بشكل يتطور مع تطوُّر الظروف ومرور الزمن، والكيان الإسرائيلي يتجاوز في غايته القومية الحالة الأولى والثانية إلى تكوين حالة تجنح إلى الخيال، حيث إنها تمثل محصلة لعوامل متشابكة من قوى الجذب والدفع التي تحركها التطلعات التاريخية، وتغذيها الاعتبارات الدينية والأيديولوجية بالصيغة التي تحدد بموجبها الأطر العامة، وترسم تبعًا لذلك شكل ومحتوى المهام والأهداف القومية للمشروع الإسرائيلي العام ومراحله المتعاقبة، وهي أهداف ومهام بُنيت على دعاوي باطلة وحقوق مزعومة، ليس من سبيل إلى فرضها إلا بالعنف والإرغام، والمطالبة بها تعني إنكار حقوق الآخرين والتجنِّي عليهم وتجاهل مطالبهم مهما بلغت شرعيتها، وينطبق على الخلف والسلف قول الشاعر:
إن الضلالة كالغريزة فيكم
يأوي إليها كهلكم وفتاكم
ومغالاة إسرائيل في غايتها القومية، وإصرارها على بلوغها بالغًا ما بلغ الثمن دفعها ذلك إلى الحرص على عدم الاعتراف بها رسميًّا حتى تبقى أطماعها في طي الكتمان، ولا يفتضح مخططها التوسعي، إدراكًا منها بأن الأهداف الاستراتيجية يجب أن تتمشى مع العناصر المكونة لقوة الدولة، وتنسجم مع الظروف الإقليمية والدولية التي تحيط بها، وهو أمر يتعارض مع إعلان الغاية القومية والاعتراف بها إلى أن تكشف عن نفسها مرحليًّا، وتكون واقعًا مفروضًا، وهكذا دواليك مرحلة بعد أخرى.
وتنظر إسرائيل إلى القتال والعنف بأنه عمل مقدس، والاستيلاء على الأرض واغتصابها يعتبر واجبًا تفرضه التوراة، وتلجأ إلى ذلك لتحقيق ما تصْبُ إليه، سواء بصورة جزئية أو كلية، وتجد في عقيدتها الدينية وموروث أسلافها ما يحفزها على الحرب والعنف، ويبرر لها إرهابها، والاحتلال الإسرائيلي الجاثم على صدور الشعب الفلسطيني منذ ما يقارب قرن من الزمن لم يترك شيئًا من أنواع العنف إلا ما اقترفه في حق الفلسطينيين، إيمانًا من الدولة العبرية بالعنف المطلق؛ بسبب ما يتضمنه مخططها من الافتئات على حقوق الشعب الفلسطيني، وأن وجودها مرهون بفرض واقع عدواني يرغم أصحاب الحقوق على قبوله، والرضوخ لما يترتب عليه من الانصياع لنظرية الأمن القومي الإسرائيلي التي تأسست على تهديد أمن الآخرين والتوسع على حسابهم عن طريق ممارسة الإرهاب والعقاب الجماعي والاستعمار الاستيطاني في الداخل والحرب ضد الخارج، واعتبار الأمن من وجهة نظر إسرائيل يتجاوز مفهوم الأمن ومعناه المتعارف عليهما إلى أنه بقدر ما هو وسيلة للاستيطان والتوسع بقدر ما يهدف إلى فرض واقع جديد وإضفاء الشرعية على هذا الواقع.
واعتماد الكيان الإسرائيلي على القوة والعنف لاغتصاب الأرض الفلسطينية والتوسع خارج فلسطين، لم يحدث ذلك من فراغ، بل أتى نتيجة لاعتماد هذا الكيان العنصري على عقيدته الدينية المتطرفة وقوميته اليهودية العنصرية، وتراثه التاريخي المشوَّه وغايته القومية المبالغ فيها، وبلورة ذلك في سياسة وطنية تعتنق هذه الثوابت، وتنطلق منها في تعاملها مع الأخرى، دون أن تكترث بالعلاقات الطبيعية والروابط المتوازنة بين الدول، ولكنها تتعدى ذلك، وتضرب عنه صفحًا في محاولة منها لتفريغ الأرض من أصحابها وإزالة الوجود العربي القائم فيها ومن حولها، ثم خَلْق واقعًا جديدًا فيها عن طريق الحرب والعنف المطلق والقمع وفرض الإرادة، واستمرار التهديد والإرهاب والعقاب الجماعي بغية بناء الدولة اليهودية، وذلك من خلال نفي ما بقي من الفلسطينيين خارج فلسطين، وجلب مَنْ بقي من اليهود في الشتات، وإحلالهم محلهم، كما حصل في الماضي من عمليات الإحلال والإبدال، وما يمارسه المحتل الإسرائيلي الآن في الأرض المحتلة من العنف المفرط والإرهاب والعقاب الجماعي والقتل ما هو إلا محاولة يقوم بها المحتل الإسرائيلي لاستكمال مشروعه في المنطقة بإقامة إسرائيل الكبرى وتهويد الدولة وعاصمتها القدس، وفي الوقت نفسه يعتبر تكريسًا للعنف والتطرف في هذا العنف، إلى الدرجة التي صار الفلسطيني متهمًا ومستهدفًا بمجرد أن يُرىَ في الشارع حتى لو لم يحمل سكينًا أو حجرًا.
والأحداث الجارية في سوريا والمحاولات المستميتة من قبل النظام السوري والنظام الإيراني لإضعاف المكون العربي السني في هذا البلد واستبداله بمكون تدرك إسرائيل أنه لا يشكل خطرًا عليها من واقع القرائن والدلائل المؤيدة بالتجارب والوقائع، دفعها هذا الموقف إلى سرعة استثماره في سوريا وبالتحديد في المنطقة المجاورة لها مباشرةً أو المشتركة معها في الهيئات الجغرافية والطبوغرافية الطبيعية التي تسمح العوامل الجيوبوليتيكية لها بالتوسع فيها وتحقيق نظريتها الأمنية متى ما انفسح لها المجال وواتتها الفرصة، ثم توَّج ذلك التدخل الروسي الذي أتى لينسق مع إسرائيل، وينفذ مشروعها في المنطقة، ومن جهة أخرى يتحالف مع إيران وينفذ مشروعها كذلك على حساب الشعب السوري، والمصالح الجيوسياسية للدولتين تتقاطع في المنطقة العربية، والتخادم بينهما بدا يطرح ثماره ويظهر للعلن تحت غطاء التدخل الروسي الذي تباركه أمريكا، وتنافق وتخدع العرب بالتحفظ عليه، ووجدت الدولة العبرية في هذا التدخل فرصة سانحة للتنسيق وتتويج عملها في الخفاء بالعمل في العلن تحت المظلة الروسية وفي خضمِّ الأحداث الجارية، الأمر الذي حفزها إلى الإقدام على ما أقدمت عليه في القدس الشريف بخاصة، والأرض المحتلة بعامة، وذلك لجس النبض على المستوى الفلسطيني والعربي والإسلامي والدولي، ومن ثم الإقدام أو الإحجام على ضوء ما يحدث من ردود الأفعال وحجم التكاليف والعائدات المترتبة على أيٍّ من الخيارين، بوصف ما حصل يمثل هدفًا مرحليًّا من مجموعة الأهداف التي يفضي المعجل منها إلى المؤجل وصولًا إلى الهدف النهائي، خاصةً وأن العامل العقائدي يتحكم في الأهداف، والتوسع والعنف هما السبيل للوصول إلى هذه الأهداف، وهما ينبعان من صميم العقيدة الإسرائيلية التي تؤمن بأن مملكة إسرائيل في فلسطين وما جاورها هي الوطن القومي لليهود.
والأزمات التي تعصف بالمنطقة والإرهاب المصنوع فيها، والحالة القائمة في كل من سوريا والعراق وتطوراتها المحتملة، كل ذلك رأت فيه إسرائيل ما يشجعها على القيام بما تقوم به في الأرض المحتلة من قتل وعقاب جماعي، موحيًا لها سير الأحداث بأن الرياح تجري لصالحها، وبما تشتهي سفنها، ويخدم مشروعها وفق مخططها وتحت مظلة الوجودين الأمريكي والروسي، وهي شريك في صناعة الأحداث والمستفيد الأول منها.
ومن المعروف أن نشأة إسرائيل وقيام كيانها على الاغتصاب والعدوان فرض عليها إعلان عكس ما تبطن والعمل في الخفاء؛ لأن هذا العمل لا يقوم على أساس شرعي مثلما هو الحال بالنسبة للدول الأخرى، وإنما يقوم على وضع شاذ قوامه الاستيطان والاغتصاب، ووسيلته العنف والقمع، وفي ظل هذا الوضع كان لا بد لها من استغلال الأوضاع الراهنة في محيطها الإقليمي لتركب موجة الأحداث، وتتستر بستارها، وتتحرك في إطارها، مستفيدةً من غبارها وما يعانيه الآخرون من تطاير شرارها، مع العزف على وتر محاربة الإرهاب، كلما مارست هذا الإرهاب، واتخاذه شماعة للاستهداف والاقتراف بالإضافة إلى رصيدها من استخدام مصطلحات الأمن الإسرائيلي والدفاع عن النفس، وأمن التهديد بالنسبة لها يشكل تهديدًا لأمن غيرها، والدفاع عن نفسها يعني اعتداء على الآخرين، وحيث إن قيامها مبني على العنف، ووجودها يستند إلى القوة العسكرية؛ فإنها تزن الأمور بميزان العنف، وتنظر إليها بمنظار القوة العسكرية.
ولعل ما حدث من عنف في الماضي، وما يرتكب في الحاضر من ممارسات وحشية وعقاب جماعي ضد الفلسطينيين في الأرض المحتلة أبلغ دليل على فظاعة هذا العنف ووصوله إلى الحد الذي أصبح معه كل فلسطيني أعزل معرضًا للقتل على الهوية؛ حيث أنه متهم بنية الطعن والإرهاب حتى تثبت براءته، والخلف على سياسة السلف، فالمدن تدمر والبيوت تنسف على رؤوس أصحابها، أو يحرقون داخلها، والنساء والأطفال يقتلون والظلم والجور على أشده، وليس أمام الفلسطينيين إلا قول الشاعر:
والأرض للطوفان مشتاقةٌ
لعلها من درنٍ تُغسَلُ
ورغم الانتهاكات المتكررة التي تعرض لها الحرم القدسي الشريف، والتضييق على المصلين فيه، واعتبار هذه الممارسات توطئة لما هو أسوأ عاجلًا أم آجلًا، فإن ردود الأفعال العربية والإسلامية والدولية لا ترقى إلى مستوى الحدث، ولسان مقال أصحاب القرار وواقع حالهم هو ما بالإمكان أكثر من الاستعاضة عن الوفاء باللفاء، ومن ناحية أخرى فإن الشعب الفلسطيني الذي ضاقت عليه أرضه بما رحبت بسبب العنف الإسرائيلي، اضطره ذلك إلى أن يطلب النجدة من مجلس الأمن ومنظمة الأمم بشأن توفير حماية دولية، تقيه من القتل والعقاب الجماعي، ولكن هيهات أن يسمع له صوت من قبل أولئك الذين يعتبرون القاتل مظلومًا والمقتول ظالمًا، وفي المقالة التالية وصف لحالة الانتماء القومي العربي وانعكاس ذلك على الأمن القومي للأمة وقضاياها المصيرية ومستقبلها.