عبد الله باخشوين
)) ذات مرة زار الرياض المفكر العربي الكبير زكي نجيب محمود.. لا أدري بدعوة ممن.. ولكن مستضيفه عندما لاحظ عدم اهتمام الصحافة بشخصه الكريم اتصل بالدكتور فهد العرابي الحارثي رئيس مجلة اليمامة - حينذاك - وطلب منه إجراء حوار موسّع مع الدكتور المفكر.
جاء الدكتور لليمامة.
اجتمعنا عليه أكثر من ستة من أهل الثقافة - سعوديين وعرب -.. وتحاورنا معه.
خلال الحوار أخذ يصحح معلوماتنا عنه.. ثم اكتشف أن لا أحد منا سبق له أن قرأ حرفاً واحداً من كتبه التي تجاوزت العشرين كتاباً.. وخرجنا بحوار.. لا هو راضٍ عنه.. ولا نحن أيضاً.. لكنه اكتشف واكتشفنا أن قضايا ((الفكر)) معزولة عن الحياة.. وعن عامة القراء أمثالنا ممن يطلقون على أنفسهم صفة ((المثقف)) وإن كنا في مراحل من حياتنا وقراءتنا نتشدق بمقولة ديكارت: ((أنا أُفكر إذن أنا موجود)).
وفى التعريف القاموسي: ((الفكر هو إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة المجهول في الأمر.. و((فكر)) نظر بروية في الأمر.
وبمعنى آخر: أن يقوم الإنسان بإعمال عقله بما فيه من قدرات وملَكات مع الاستعانة بمعلومات ومعطيات معينة متوفرة لديه ليتوصل في النهاية إلى حل مشكلة معينة أو تأسيس نظرية معينة أو تحديد وتفسير علاقة معينة بين شيئين أو أكثر.. أو إيجاد بدائل لشيء ما.. أو محاولة منه لتطوير وتحسين ذلك الشيء.. أو ابتكار شيء جديد)).
طبعاً من الواضح أن كل هذا الكلام الذي تقدم كلام قاموسي وليس من عندي.
وفي مسار تطور الفكر العربي نجد أنه فكر ((ذاتي)) ومعزول.. فعلى المستوى الثقافي والفلسفي يبرز عدد كبير من المثقفين المغاربة الذين ترتبط أطروحاتهم ونظرياتهم بالفكر الغربي إن لم نقل الفرنسي تحديداً.. وعلى المستوى السياسي.. ارتبطت الأطروحات بالنظرية الماركسية وفق تطبيقاتها في ضوء أطروحات لينين وتروكسي وماو تسي تونغ وفى ضوء ممارساتها العملية في الدول التي طبقت فيها دون أن تفيد العرب في أي شيء.. وارتبطت بالفكر القومي العربي في ضوء أطروحات عبد الناصر وحزب البعث والحزب القومي السوري الاجتماعي.. وجميعها لم تخرج كثيراً عن أطروحات الساسة وممارساتهم فمعظمها سُخّر لتبرير ما يقومون به من أفعال مشينة.
أما على المستوى الديني فقد تسلطت التيارات الإسلامية المحافظة والمتطرفة في محافظتها على المفكرين ممن تبنوا أطروحات دينية مستنيرة وتم تكفيرهم ((على يد مفكرين إسلاميين))..
وعلى مستوى الفكر الاجتماعي فقد تم تكفير كل من تناولوا قضايا حرية المرأة.. وبقية إشكالات المجتمع برؤية جديدة ومستنيرة.
طبعاً هذا لا يعني أنه ليس لدينا مفكرون عرب.. بقدر ما يعنى أن هذا الفكر بعيد ومعزول عن قضايا وهموم المجتمع العربي.. الذي يُعاني من ((الأمية)) بشكل كبير جداً.
ويعانى من ((الجهل)) بسبب الافتقار إلى مصادر معرفة متطورة تكون حكومية بالدرجة الأولى.. ويعانى من ((التخلف)) بسبب عدم قدرته بالنهوض بكل مفاصل حياته التي يمكن أن تدخله في لغة الحضارة الإنسانية في جوهرها.. وليس مجرد ((أي سبيك إنجليش)).. والتحدث بلغة إنجليزية كفيلة بأن تخلصه من إشكالات تخاطبه مع الآخرين.
بمعنى أنه يعانى من إشكالات حياته الأساسية منذ أكثر من نصف قرن.. أما إذا أضفنا لها إشكالات تحولاته الحالية.. فإن الأمر يصبح بمثابة كارثة حقيقية.. نتجت عن إفرازات السياسة والمصالح والأوهام والأحلام والطموحات الكارثية.. التي تزداد سلبية نتائجها يوماً بعد يوم.. ذلك أن الفكر العربي لم يتحدث عن الإرهاب والتطرف.. ويصل بنا إلى نتائج كفيلة بالقضاء عليه.. حتى يمكن لنا كـ((مثقفين)) أو حتى ((متعلمين)) أن ننادي بضرورة تبنيها حتى نقضي على خطر التطرف المؤدي للإرهاب.. ونئد الإرهاب في مهده.
الفكر العربي لم يطرح لنا أفكاراً إيجابية حول الفقر والجوع والعدالة الاجتماعية بطريقة تدفعنا إلى القول بأن أصحاب القرار تبنتها وطبّقتها لمصلحة كل مجتمعاتهم لأنها تحمل الحلول الإيجابية لمشكلات اقتصادهم.
أما إذا تحدثنا عن الاقتصاد فإن الكارثة تكون أكبر كثيراً مما نعتقد أو نتصور لأنه لا يوجد مفكر عربي واحد قدّم لنا حلولاً اقتصادية قادرة على التعامل مع كل المشاكل الحياتية والتنموية.. الأمر الذي أبقى على هذه المشكلات كحجر عثرة أمام أصحاب القرار إلا من خلال رؤيتهم واجتهاداتهم.
كل هذه الأمور مجتمعة تجعل من أطروحات الفكر العربي.. سواء باجتهاداته الخاصة أو حتى المؤسساتية.. تجعل منه ((بريستيج)) وغطاءً ظاهرياً.. يسعى لإضفاء أهمية على النفوذ المالي الذي يُكرّسه.. دون أن ينطلق من بُعد إستراتيجي قادر على تحرير هذا ((الفكر)).. لأن الفكر لا يمكن أن يتحرر إلا إذا كنا قادرين على تطبيق جوانبه الإيجابية.. وكنا قادرين على التعامل مع السلبيات التي تحول دون تطبيق إيجابياته.
لذلك، فإن الفكر العربي ليس مؤسسات راعية أو داعمة أو منظمة.. الفكر العربي - في نتائجة - سلوك وممارسة.. لا يقدر على تنفيذها ووضعها على أرض الواقع سوى أولئك الذين في يدهم القرار والقدرة على التنفيذ.
من هنا.. فإن المؤسسات والهيئات الوطنية - في كل بلد - هي وحدها القادرة على رسم آفاق المستقبل.. وذلك بالتوجه للقادة وأصحاب القرار.. الذين يثقون فيهم.. ويعرفون أنهم ينقلون لهم هموم الناس واحتياجاتهم ومن هنا تأتي أهمية الشورى ومجالسها.