عبد الله باخشوين
في علاقتي بالصحافة والكتابة.. نشأت بيني وبين الكثيرين صداقات متفاوتة الحجم والتأثير.. أهمها كان مع إبراهيم الفوزان.. وفهد الخليوي.. الذين اعتبرهما بمثابة شركاء في الهموم الأولى لمسيرة التعلم ومحاولة الفهم التي تؤدي بالكاتب إلى نوع من الاستقلالية والخصوصية.
أما فيما بعد فإن أهم من ارتبطت بهم.. واحببتهم حباً عميقاً.. هما الدكتور عبدالله مناع الذي تعود علاقتي به لمطلع التسعينات الهجرية.. والمرحوم عابد خزندار الذي تعرفت عليه منذ بداية مهرجان الجنادرية تقريباً.
وكلاهما يعُد أفضل المعلمين الذين تتلمذت على يديهما.. وأخذت من كل منهما دروساً وعبراً ظلت تنير حياتي الخاصة.. وتضيء وتضيف لثقافتي وتجربتي.. وإن لم اكن قد تأثرت بأساليب كتابتهما ولم اقلدهما.. فقد كان الدور الأساسي للحوارات الطويلة التي كانت تدور بينهما وبين أساتذة كبار.. وبيني و بينهما.. وأزعم انني تعلمت من حُسن الاستماع.. واختصرا عليَ مسافات طويلة عرفت من خلالها أهم المبدعين.. واهم الإبداعات في القصة والرواية والشعر والنقد والفكر أيضاً.
كل هذا قبل أن يتدخل من اطلق عليهم صفة ((اللصوص)) الذين لا هم لهم سوى افساد اية علاقة جميلة.. لا يروق لهم نموها واستمرارها.. خاصة اذا كانت مع الكبار، وحتى الآن لم أعرف السبب الذي أدى لفتور علاقتي بالمناع لسنوات طويلة سوى تدخلات ((اللصوص)) الذين جعلوا شقة الأمور تتباعد بيننا وزينوا له هذه الأسباب مثلما زينوها لي.
أما عابد خزندار رحمه الله.. فقد تطورت علاقتي به قبل نحو خمسة عشر عاماً.. وأصبحت علاقة عائلية.. نتشارك فيها بلقاءات شبه أسبوعية عادة ما يكون معنا فيها المبدعتان شادية ورجاء عالم.
أما حين لا تكونان معنا.. فيأتي لمنزلي برفقة زوجته المرحومة الأستاذة شمس، وتحتفي بهما زوجتي.. وتصنع لهما ((الكيك)) و((السمبوسك)) الذي يحبه الأستاذ من يدها.. ولا شيء لديه أجمل من أن يراها تحمل طبق ((السمبوسك)) وتضعه أمامه حين نذهب لزيارته.. يتهلل وجهه وحتى قبل رد السلام تمتد يده لتناول ((حبة)) سمبوسك، أزعم ان لزوجتي طريقة خاصة جداً في مكوناتها.
ثم فجأة تدخل ((اللصوص)).. وكان الهدف هذه المرة هو تدمير علاقتي به بشكل نهائي.. وقد نجحوا في ذلك في وقت قياسي وسريع.. حتى لقد أصبحت أرى في الأستاذ عدواً لدوداً.. متجاوزاً ذلك الحب العميق والتقدير الكبير الذي أكنه له كإنسان وكمعلم.
وطبعاً وجد ((اللصوص)) من يزكي ذلك الخلاف والكره.. بطريقة عندما أستعيدها أقول.. انني لا أعرف سبباً واضحاً ومحدداً لها.. ولا أجد أي مبرر يجعلني انساق فيها بتلك الطريقة ((الشرسة)) التي تبدو كأن استاذي الحبيب قد قتل أحب الناس لي.
غير أن هذا لم يدم طويلاً.
فخلال رحلتي لأستراليا لزيارة أبنائي الذين يدرسون هناك.. وجدت ان الفرصة كانت مواتية للتواصل مع الأستاذ واعادة المياه لمجاريها.
بدا كأنه كان ينتظر ذلك الاتصال مني.. خاصة بعد أن اصبح وحيداً في باريس عقب وفاة زوجته التي لم نعلم بوفاتها الا بعد موته.
فحين أردنا الاتصال بها لتعزيتها في وفاة الأستاذ.. أخبرتنا ابنته سارة بأن والدتها انتقلت لرحمة الله قبل موت أبيها بأكثر من عامين ونصف.. وكان عليَ أن أتحمل مر العتاب من زوجتي على تلك الطريقة الفجة التي قاطعنا بها الاستاذ. غير أن تواصلنا كان حيوياً وعميقاً.. لأن لديه ما كان يريد أن يقوله لي بشكل خاص.. وكان لدي ما أريد أن أقول لصديق عزيز أحبه كثيراً أكثر ما أسعده.. هو تواصلي معه بقلب محب وعقل مفتوح.
كنت قد كتبت في - أستراليا - رواية عنوانها ((مراهقة الكبار)).. وكان أن أرسلتها له.. ليقول الرأي النهائي حول امكانية نشرها لأنها على شيء من الجرأة.. والصراحة.
فى البدء.. أرسل لي إشارة تقول:
- ((عبدالله.. كل ما تكتبه يصلح للنشر وعلى مسؤوليتي)).
أربكتني تلك الرسالة فهي على ما فيها من مشاعر طيبة تشد أزري.. لم تقل رأياً واضحاً في الرواية.. ولكن رأيه جاء من خلال مقال نشر في زاويته يتحدث فيه عن حمى التطرف والنزعة التكفيرية لدى البعض تجاه كل كتابة جريئة بما قد يصل لمحاولة إلحاق الأذى بكاتبها.
وعرفت أنه على طريقته الخاصة.. يتحفظ على فكرة نشر ما كتبت.. لذلك فقد اكتفيت بنشرها في موقع إلكتروني أسسه لي ابني محمد.
عندما عدت لجدة.. أرسل لي إشارة خاصة تقول:
- ((عبدالله.. شكراً على ثقتك بي)). كان يدرك أننا أعدنا بناء الثقة التي كانت قد انهارت تماماً - من جانبي على الأقل.
أما المناع أمده الله بالصحة والعافية.. فقد التقيت به في أحد معارض الكتاب بالرياض وكان يصحبه عبدالله سلمان.. وخلال السلام والكلام عرفت أن الفتور الذي صنعه ((اللصوص)) ما زال باقياً. قلت له:
- هل تذكر اننا نشرنا في اقرأ قبل أكثر من ثلاثين عاماً.. ما يقول بأن المطر على جدة كارثة.
قال: ((نعم)).
قلت : ((إلى متى تبقى الكوارث؟.. وإلى متى تذهب الأموال المرصودة لجدة في البحر؟))
لم يضحك ضحكته الطلقة الجميلة.. لكنه اكتفى بما يشبه التكشيرة وقال كأنه يدعوني للانصراف من أمامه:
((صحيح كل شيء تغير وكارثة جدة باقية إلين ربك يعدلها)).
قلت قبل أن أذهب:
- الناس صار عندها لسان.. لكن المشكلة كلنا نتكلم في وقت واحد وما في واحد يبغى يسمع ايش يقول الثاني.
كاد يطلق تلك الضحكة التي عرفتها جيداً وطربت لها.. لكنه لجمها وقال:
- المهم أن الناس طلع لهم لسان...!
عدت وكتبت عنه لأقول له إني ما زلت أحبه.