د.عبد الرحمن الحبيب
كيف تختار مرشحك المناسب في مدينة ضخمة، وأنت لا تعرفه إلا من إعلاناته الانتخابية المحدودة ولفترة قصيرة (12 يوماً فقط)؟ وما هي معايير التقييم؟ وكيف تعرف الفرق بين المرشحين؟ وكيف تثق ببرنامج المرشح؟ ولاحقاً كيف تقيم أداء العضو الذي انتخبته؟
هذه الأسئلة تحير كثيراً منا، وقد تكون السبب الرئيس في عزوف النسبة الأكبر عن المشاركة في الانتخابات البلدية. فبدون عمل مؤسسي ربما ينحصر الخيار بالتصويت للمعرفة الشخصية التي غالباً ما تكون عشائرية، وفي حالات أقل تكون معرفة دعوية دينية لا علاقة لها بتقنية العمل البلدي.
نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة للذين سجلوا أسماءهم كانت 47 %، وهي نسبة تميل للانخفاض لكنها معقولة مقارنة بتجارب الدول الأخرى؛ أعلى من الانتخابات الثانية (2011م) وأقل من الأولى (2005). ربما لأن الأولى كانت تحمل بريق جاذبية الجديد بينما الانتخابات الثانية حملت تقلصاً للأمل، ناقشتها حينئذ. أما زيادة نسبة المشاركة الحالية عن السابقة فقد ترجع لمشاركة المرأة مما أكسبها زخماً اجتماعياً وأنعش الانتخابات خاصة أن نسبة المشاركة السابقة تدنت إلى 39 % ممن سجلوا أسماءهم.
عند قراءة دلالات المشاركة في الانتخابات وفقاً للمتغيرات التي أظهرتها الدراسات السابقة، وجدت أن أوضحها تفاوت نسبة المشاركين بين المناطق، إذ بلغت المشاركة الأخيرة حوالي ثلاثة الأرباع بمنطقة الحدود الشمالية بينما انخفضت إلى نحو الربع بالأحساء. لمزيد من الإيضاح سأقسم المناطق إلى خمس فئات حسب نسبة المشاركة بالانتخابات الأخيرة: الأولى وهي النسبة المرتفعة: الحدود الشمالية (74 %)، حائل (67 %) الجوف (66 %)، نجران (60 %). الثانية فوق المتوسط: القصيم (56 %)، تبوك (55 %)، الباحة وعسير (51 %). الثالثة متوسطة: المدينة المنورة والطائف (47 %). الرابعة تحت المتوسط: الرياض وجازان (45 %)، المنطقة الشرقية (41 %). الخامسة منخفضة: جدة (35 %)، مكة المكرمة (31 %)، الأحساء (27 %).
أكثر ما يتبادر للذهن هو الحضور القبلي في مجتمعات المناطق ذات نسبة المشاركة المرتفعة على نقيضها ذات النسبة المنخفضة. كذلك يلاحظ زيادة الحضور القبلي نسبياً بالمناطق ذات النسبة فوق المتوسطة مقارنة بمناطق النسبة تحت المتوسطة. هنا، يبدو المتغير القبلي هو المؤثر الرئيس في تفاوت نسبة المشاركة بين المناطق، وليست مجرد التوزيع الطبيعي في نظرية الاحتمالات لوصف المتغيرات العشوائية إحصائياً.
يؤيد هذا الاستنتاج دراسة استطلاعية للدكتور وليد أبو ملحة حول اتجاهات الناخبين في اختيار المرشحين بالانتخابات البلدية الأولى بمحافظة خميس مشيط، التي أظهرت أن العنصر القبلي كان أهم العناصر في اختيار المرشح بنسبة 36%، يليه المعرفة الشخصية والعلاقات الأسرية والاجتماعية (29%)، ثم الانتماء الفكري (23%)، في حين كانت الكفاءة المهنية ومنطقية البرنامج الانتخابي الأقل بنسبة 11%!
كما أن دراسة استطلاعية شاملة على مستوى المملكة لمركز أسبار بعد الانتخابات الأولى، لاحظت ارتفاع نسبة المشاركة في المناطق الريفية والبدوية مقارنة بالمناطق الحضرية والمدنية، وفسرت ذلك بطبيعة التركيب السكاني للمناطق المختلفة وباختلاف قوة الحراك الاجتماعي. كما سجلت الدراسة تأكيد سبب الاستجابة للتصويت نتيجة طلب العشيرة والقبيلة في المناطق البعيدة، وخاصة مناطق الحدود الشمالية. لكن هذه الدراسة اختلفت نتائجها عن الأولى في ترتيب المعايير المطلوب توفرها في المرشح، فكان: المستوى التعليمي 81 %، السمعة الحسنة بالسلوك والنزاهة 79 %، الالتزام الديني 72 %، الخبرة بمجال العمل 62 %، الشجاعة في الرأي وقول الحق 48 %. وقد يرجع السبب للفرق بين نتيجة الدراستين للفرق في الخيارات المطروحة في الاستبيان، فضلاً عن الاختلاف الديموغرافي ومدى شموليته.
إذا كان من السهل استنتاج أن العامل القبلي كان عنصراً محفزاً للمشاركة في الانتخابات في المناطق ذات الحضور القبلي، فلماذا انخفضت نسبة المشاركة في المدن؟ خارج المدن في البلدات والضواحي توجد مؤسسة القبيلة كتنظيم اجتماعي ضارباً جذوره في عمق التاريخ، وعند الانتقال إلى المدن تضمحل هذه المؤسسة فيما لم تتمكن المؤسسات الحديثة من ملء هذا الفراغ المؤسسي فضلاً عن المؤسسات التقليدية مثل مؤسسة المسجد والمدرسة والأعيان...
ثمة ضعف أو غياب للمؤسسات المدنية والرسمية.. أين المؤسسات مثل: هيئة المهندسين، المحامين، الصحفيين، الغرف التجارية، الجمعية السعودية للهندسة المدنية، جمعية العمل التطوعي.. أو حتى المؤسسات الرسمية المتميزة مثل الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض؟ سبق أن أرجع رئيس المجلس الوطني للرقابة على الانتخابات السابقة (د. ماجد قاروب) ضعف إقبال المحامين والمهندسين كمراقبين إلى قلة ثقافة العمل التطوعي والمسؤولية الاجتماعية..
كانت التوصية الأولى لدراسة أسبار، وضع إستراتيجية في المملكة لتحديد الأسس والمنطلقات الفكرية والاجتماعية والسياسية والدينية لثقافة المشاركة بالشأن العام.. ومن ضمن التوصيات تسريع عمليات إيجاد الآليات التنظيمية التي تؤطر الفئات والمهن والنشاطات المختلفة، وتستوعب الحراك السياسي والاجتماعي والثقافي، وتحل تدريجياً محل الروابط العصبية القبلية والطائفية.. ثمة توصية أخرى بإنشاء منظومات إعلامية فرعية محلية مناطقية، تستطيع إنتاج مضامين إعلامية، وتوجيه رسائل اتصالية مناسبة لظروف كل منطقة ولطبيعة تركيبتها السكانية...
أخلص من ذلك إلى أن الآليات السابقة لإجراء الانتخابات تحتاج إلى مراجعة متأنية لوضعها في إطار مؤسسي مدني.. مثلاً حصر الانتخابات بالترشيح الفردي دون نظام القائمة على طريقة انتخابات الغرف التجارية، ودون مشاركة المؤسسات ذات الصلة، أدى إلى ضعف الإقبال على الانتخابات بالمدن، فالأفراد المرشحون غير معروفين بالغالب، بينما المؤسسات سيكون لها حضور اعتباري مشهود لو أنها شاركت.. فلو ترشح مهندس من الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، له صيت بالكفاءة في المتنزهات أو تخطيط المدن أو شيء من هذا القبيل، فسيكون له معنى مؤسسي مهم في اختيار الناخبين، على خلاف فرد مجهول لا نعرف عنه شيئاً. في الدول ذات التجارب الناجحة تجد المؤسسات المحلية من اتحادات وجمعيات وهيئات (رسمية أو مستقلة) تغطي هذا الجانب المؤسسي للانتخابات، مع بقاء الترشيح الفردي متاحاً.
الشفافية، أيضاً، تلعب دوراً مهماً في تقيم أداء الأعضاء بالحصول على تفاصيل واضحة عن أعمال المجلس البلدي وليس مجرد تقرير عام فضفاض.. مثلاً عند إقرار مشروع ما ورفض آخر، لا بد من معرفة ملابسات ذلك، وأداء العضو المنتخب: هل أوفى بوعوده، هل قام بواجبه؟ هنا يأتي دور الصحافة المحترفة في الاستفادة من مبدأ الشفافية المقر نظاماً وكشف المناقشات والمعاملات والعقود خلف الكواليس.