د.عبد الرحمن الحبيب
قبل أيام نشرت مارين لوبان (رئيسة حزب الجبهة الوطنية في فرنسا) في توتير ثلاث صور صادمة لإعدامات وحشية بحق رهائن قام بها داعش، مما أثار استهجاناً واسعاً في فرنسا، وقام نشطاء كثر بإشعار إدارة تويتر بضرورة حذف هذه الصور البشعة..
لماذا فعلت لوبان ذلك؟ لأنها استشاطت غضباً من تصريحات وردت في برنامج براديو آر إم سي الفرنسي، عندما قال الناشط بوردين إن هناك روابط غير مباشرة بين «داعش» والجبهة الوطنية، وهو ما وافقه عليه ضيفه. لوبان طالبت البرنامج بضرورة سحب هذه التصريحات مهددة بنشر تلك الصور الصادمة.. وهي نشرتها على كل حال قبل أن تسمع الرد!
الاستنكار على نشر الصور امتد إلى رئيس الحكومة الفرنسية مانويل فالس الذي قال إن نشرها هو خطأ سياسي وأخلاقي، وأن ما قامت به لوبان لا يحترم الضحايا، وأنها لا تريد سوى تهييج الرأي العام، مشاركًا لهاشتاغ معناه أن حزب الجبهة الوطنية في حالة تسلّل. لماذا في حالة تسلل؟ لأن الحزب بدأ في الآونة الأخيرة ينفذ تهديفات مقبولة شعبوياً. فمنذ أن أصبحت مارين لوبان زعيمة الجبهة وهي تنأى بكل جهدها عن الصورة التي لصقت بالجبهة بتشبيهها بالنازية الجديدة أو بأي جهة في أقصى التطرف مثل داعش.. وتتوتر أعصابها إذا اتهمت بالتطرف..
منذ عقود والنازية الجديدة في أوربا تمثل أقلية يمينية متطرفة، وفشلت في جذب الرأي العام، بسبب تاريخ الجرائم الهمجية التي ارتكبتها الشوفينيات القومية هناك لا سيما النازية الألمانية. وكان والد مارين وهو جون لوبان الزعيم السابق للجبهة ومؤسسها دأب بين حين وآخر على كشف إيديولوجيته الشوفينية ذات الميول النازية.. مثل قوله عام 2005: «الاحتلال الألماني لفرنسا لم يكن بالبشاعة التي يتصورها الناس، على الرغم من الأخطاء التي يستحيل تفاديها في بلد كبير مثل فرنسا».
على عكس والدها استماتت مارين في تحسين «صورة» الجبهة، واختلفت مع تصريحاته الفجَّة وسعت جاهدة لإزاحته عن زعامة الجبهة والحلول محله مظهرة توجهاً للرأي العام الفرنسي وليس فقط شريحة أقصى اليمين التي كانت الجبهة تركز عليها، وبذلت جهداً دؤوباً في الظهور بكافة قنوات الإعلام الفرنسية والأوربية. وقد أبدت اهتماماً بالمسائل الاقتصادية والاجتماعية للطبقات الشعبية.. وادعت أنها سبق أن دافعت تطوعياً في المحاكم عن المهاجرين الذي لا يجدون مالاً عندما كانت محامية..
فكرة تحسين صورة الجبهة التي تقودها مارين أخذت في الترسخ بين الأعضاء والأنصار منذ عقد، وتمكنت مارين من الحصول على شعبية تفوق والدها وجميع حرسه القديم. وحازت على زعامة الجبهة فيما والدها تحول إلى رئيس شرفي. لكنها تمكنت من الدعوة إلى تصويت أعضاء الجبهة من أجل تغيير قوانين الجبهة وإلغاء منصب الرئيس الشرفي الذي كان يشغله والدها، لكي تتخلص من إرثه المزعج المنفر. واعتبر جون ماري لوبان أن ابنته دبرت مؤامرة ضده، ولجأ إلى القضاء، فألغت المحكمة قرار تغيير قوانين الحزب والانتخابات.
وفي محاولتها للتملص من صورة إرث والدها المعادي للسامية قامت زعيمة الجبهة الوطنية بالتقرب من إسرائيل وانتقدت الحملة الداعية إلى مقاطعة إسرائيل متهمتها بأنها «عنصرية»، مؤكدة أنها لن تسمح بمعاداة السامية في صفوف الجبهة. وفي المنوال ذاته قلصت من مواقف والدها المعارض لوجود إسلام في فرنسا وصاغته بطريقة ملطفة متحدثة عن «ضرورة إيجاد إسلام فرنسي، لأن إسلام فرنسا، له مفهوم إقليمي».
المحصلة أن الجبهة خففت من صورة إيديولوجيتها القومية الشوفينية وركزت ظاهرياً على القضايا الاقتصادية والاجتماعية مما زاد من شعبيتها وحصلت في الانتخابات الجهوية الأخيرة على نسب لم تحلم بها، رغم أن الجبهة لم تفز بأية منطقة بسبب تحالف الأحزاب المعتدلة ضدها. والآن تعد مارين لوبان نفسها زعيمة المعارضة في فرنسا، والمرشحة الأوفر حظاً في الانتخابات الرئاسية القادمة عام 2017م، وهناك العديد من المؤشرات التي تدعم ذلك، وهنا مكمن الخطورة.
إذا كانت الجبهة قد خففت ظاهرياً من تطرفها فما هي خطورتها، خاصة بالنسبة لنا في العالم الإسلامي العربي؟ الشعبية التي تنامت لهذه الجبهة أتت من خلال دغدغة العواطف الشعبوية بأن أغلب الأزمات الاقتصادية (تردي أحوال المعيشة، البطالة المتصاعدة) التي تعاني منها فرنسا هي بسبب الآخرين: العولمة (منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي)، الاتحاد الأوربي، المهاجرين، الإسلاميين.. وأن المشكلات الأمنية هي بسبب الأجانب.. أي أنها خرجت من مبنى القومية الشوفينية عبر البوابة الرئيسة وتسللت إليه من البوابة الخلفية..
مارين لوبان تريد استعادة أمجاد فرنسا العظمى بلغة وطنية مؤثرة متضمنة في ثناياها عبارات شوفينية قريبة من الروح الاستعمارية.. فهي تكرر في لقاءاتها المقولات التالية: العودة إلى فرنسا المهيمنة المستقلة اقتصادياً عن العولمة وعن الاتحاد الأروبي، ورمي عملة اليورو واستعادة الفرنك الفرنسي.. فرنسا العظمى عسكرياً المستقلة عن الناتو.. فرنسا النقية وطنياً بلا مهاجرين ولا أجانب.. داعية إلى استعادة دور الثقافة الفرنكوفونية في ريادة الفكر العالمي، وتعظيم دور اللغة الفرنسية في العالم قاطبة..
في موضوع الهجرة تطالب مارين لوبان بالترحيل الفوري للمقيمين بصورة غير شرعية. أما أولئك المقيمون بصورة شرعية فتطالب بإمهالهم ثلاثة أشهر لإيجاد وظيفة أو الترحيل. كما تطالب بتقييد قوانين الهجرة إلى أقصى حد وتقلص القوانين الجاذبة للهجرة طارحة فكرة الأولوية الوطنية بأن يكون لمن يحملون الجنسية الفرنسية الأولوية على غيرهم في كل شيء كالسكن والمساعدات الاجتماعية والعمل..
هنا تتهم مارين لوبان بالعنصرية وكراهية الأجانب في بلد يعلن احترامه لحقوق الإنسان والمساواة والحريات والتعددية الثقافية.. فعلى سبيل المثال شبَّهت مارين صلاة المسلمين الفرنسيين في الشوارع ظهيرة الجمعة بالاحتلال النازي، ولا تزال تصر على هذا الرأي. لذا، تصنَّف الجبهة من قبل الوسط واليسار واليمين ومن كبرى وسائل الإعلام الفرنسية بأنها تمثل اليمين المتطرف.
إذا كانت النازية أو الفاشية الجديدة محكوم عليها بالفشل شعبياً في دول أوربا، فإن لها وسائل ملتوية وأقنعة مواربة دون أن تغير أهدافها، فهي تخرج من الشوفينية من الباب الأمامي وتدخل إليه من الباب الخلفي.. وإلا كيف نفسر قول مارين لوبان أنها «تناضل ضد الهجرة وليس ضد المهاجرين»؟