د.عبد الرحمن الحبيب
التقطت الكاميرا صورة أربعة وزراء سعوديين جالسين صفاً ومنهمكين بتصفح جوالاتهم خلال حضورهم استقبال وفود القمة الخليجية الأسبوع الماضي.. كلهم في حركة واحدة: أعينهم محدقة في الجوال، الكف اليسرى تحتضنه وسبابة اليمنى تضغط. المشهد نال تداولاً واسعاً في الإنترنت..
الصورة هنا هي الحدث.. آلاف التعليقات تناولت أسباب انشغال الوزراء رغم أنهم في الغالب منشغلون بمتابعة مسؤولياتهم، لكن الصورة مخادعة لأنها لقطة طارئة بلا سياق، وجذابة لأنها طريفة سهلة التلقي أنتجت تعليقات لا تقل طرافة.. وتعليقات على التعليقات أكثر منها على القمة.. نقاش قائم على خيالات!.
لم تعد الصورة هي الحدث فقط بل صارت تصنع الحدث.. تصنع واقعاً جديدا.. مثل ما يتم الآن في العالم الافتراضي بإعادة تشكيل الصور أو تركيب مقاطع على أخرى أو حتى إعادة تشكل صورنا أنفسنا بما يرضينا ويسلينا كما نلاحظ في الهوس بالتقاط صور «سيلفي»..
تجلس في مطعم برفقة العائلة، تدردش فيأتي الصدى همهمة.. الجميع غارقون في أجهزتهم الذكية.. تقول نكتة فلا أحد ينتبه، فهي تبدو غبية أمام الأجهزة الذكية، وغير قادرة على المنافسة.. ثم فجأة يطلق أحدهم ضحكة من صورة أتته على الواتساب.. تقول له لماذا لا تستمتع بما أنت فيه الآن، والصور «ملحوق» عليها؟ لا أحد يسمعك أيها المسكين.. يأتي الطعام فيطفق كلٌّ يصوره ويرسل.. ليس لأن الطعام شهي بدرجة نادرة، بل لأن صورته مغرية.. الصورة أهم من الحقيقة، أهم من الشيء في ذاته..
تظهر في تويتر صورة سيئة غذائياً في مطعم، أو سيئة صحياً في مستشفى، أو سيئة سلوكياً في دائرة حكومية.. وقبل التحقق المتأني قد يظهر بعد ساعات قرار بإغلاق المطعم، أو نقل مدير المستشفى، أو إيقاف مدير الدائرة الحكومية.. ما الذي يحدث في هذا العالم؟ وكيف بدأت الحكاية؟
قبل اختراع الكاميرا، كانت الأشكال الواقعية تُرسم، وكانت العلاقة بين الشيء وصورته المرسومة تمثل انعكاس الواقع مثل رسم الخريطة، فنميز بين الواقع والتشبيه به. بعد ظهور الكاميرا في عصر التصنيع بالقرن التاسع عشر حصل نوع من الالتباس في العلاقة بين الشيء وصورته عندما أصبح ممكنا إعادة إنتاج الصورة آلاف المرات (علم الاجتماع، دار دورلينج كيندرسلي).
في منتصف القرن العشرين كان المفكر الماركسي غي ديبور أول من طرح تحول التفكير إلى ثقافة الاستهلاك مع بداية الإنتاج الصناعي الهائل، موضحاً أن حياة المجتمعات تقدم نفسها كحالة تراكم للمَشاهد. لذا أصبح يتم تكثيف الحياة داخل مجموعة من صور مسجلة: صور الزفاف، صور العائلة، صور رحلات سياحية.. وهلم جرا. الناس صاروا أكثر اهتماماً في التقاط صور الأشياء أكثر من عمل الأشياء.. أصبحوا متفرجين. الصورة وليس الحدث هو مركز الاهتمام.
قبل نهاية القرن العشرين قال المفكر الفرنسي بودريار «إن سنة 2000 بطريقة ما لن تأخذ حيزها الزماني، لقد انتهى العالم الذي نعرفه، ففي القرن الحادي والعشرين تجازونا بالفعل نهاية العالم. لقد حصلت الجريمة المتكاملة: اغتيال الحقيقة! صارت الطريقة الوحيدة للمعرفة هو فيضان الصور المتدفق التي يعاد إنتاجها..» واستهلاكها عبر الإنترنت والتلفزة والإعلانات والأفلام والصحف. القمح الذي تعرفه في الحقول لم يعد ببساطة قمحاً، بل بضاعة استثمارية لحبوب إفطار مصنعة تظهر في الإعلان التجاري عبر المشهد الرأسمالي.
التكنولوجيا تقدمت أكثر، والصورة التي كانت في الأساس تمثيلاً تجريداً للشيء لم تعد بحاجة للرجوع إلى واقع هذا الشيء، أصبحت مستقلة تتخلق من ذاتها، وتنتج الواقع. فمع إعادة إنتاج الصور واستنساخها تنتشر على نطاق واسع في الإنترنت، وتنتج مشاركات جماهيرية واقعية، ومع الفوضى والانفصال عن العالم الفعلي، تظهر نقاشات بطريقة تبسط العالم وتديره على أساس الصور.
أصبح العالم الافتراضي مثيراً ومضبوطاً ومرضياً بطرق أفضل من عالمنا الفعلي المحيط بنا. من خلال إعادة إنتاج الصور يمكن خلق شخصيات ونماذج خيالية محببة لنا.. في الرشاقة، والموضة، والمقتنيات.. وهلم جرا. هنا يكمن الخطر، وفقاً لبودريار: فتركيب الوقائع عبر الصور يمكن أن يتم من أجل الاستمتاع بعيداً عن الواقع. فطالما أننا نركب خيالات، ونملك حرية تركيب العالم لماذا لا نعملها وفق تمنياتنا؟ لكن الخيالات التي نخلقها في العوالم الافتراضية بمثابة الموت حسب تعبير بودريار: لم نعد نريد التجربة الفعلية للشيء، بل تجربة ما يقال لنا عن التجربة لشيء بطريقة مفرطة أو أكثر من الشيء ذاته.. واقعي أكثر من الواقع..
بطبيعة الحال هذه الصور لم تنفصل تماماً عن الواقع الفعلي، فثمة بقايا منها، لكن الناس الذين يجدون المتعة في الصور المتولدة من صور قد يجدون متعة أكثر في الصور الرقمية التي لا علاقة لها بالواقع. فأمام الأجهزة الذكية نحن نقبع بلا حراك.. مجرد مشاهدين أو صانعين للصورة وليس للحدث.
المفارقة - حسب بودريار- أن الواقع يغيب ليس لنقص المعلومات، بل على العكس بسبب انهمار للمعلومات الملتبسة لدرجة الغرق وصرنا نبحث عن حل أو خلاص بسيط هو بين أيدينا. الصورة وإن كانت زائفة تعد حلاً معقولاً رغم أنها على حساب المعني الصادق للمعلومة. العالم أصبح شكلاً ظاهرياً.
الصورة التمثيلية التي تصنع عالم اليوم تُبنى لكي ترضي رغباتنا. ومع زيادة العالم الافتراضي فإن أفكارنا وخيالاتنا تنحسر. صرنا نقبل ما نتلقاه، طالما أنه الأسهل؛ فيمكنك أن تزور الأهرامات المصرية الثلاثة وأمامها أبو الهول في متحف أمريكي دون السفر إلى مصر، فلا حاجة لنظام الأشياء أن يصبح واقعياً طالما أنه يؤدي الغرض: المتعة. يقول بودريار: «لقد خلقنا حقيقة متضخمة.. بناء مشع لنماذج مركبة في أبعاد فراغية دون محيط اجتماعي.»
يبدو أننا لم ننتبه أن الإنسان الآلي وحده يمكنه العمل دون محيط اجتماعي. المثال السابق للمطعم يوضح كيف أننا لم نعد نرغب في تجربة التمتع الفعلي، بل خلق عالم افتراضي عبر ما نرسله أو نتلقاه من الآخرين المتواجدين في موقع آخر.. أما الوزراء الأربعة فبدلاً من أن نسأل ماذا فعلوا؟ سألنا: ماذا فعلت صورتهم؟.. لم تعد تختار الموضوع صارت الصورة تختاره لك.. اليوتيوب ينتقي لك مئات الخيارات.. أنت استرخ وتمدد، الصورة تقوم بالواجب.